التعجيب من شأنهم على طريقة الاعتراض في أثناء الحثّ على الجهاد ، وهؤلاء فريق يودّون أن يؤذن لهم بالقتال فلمّا كتب عليهم القتال في إبّانه جبنوا. وقد علم معنى حرصهم على القتال قبل أن يعرض عليهم من قوله : (قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) ، لأنّ كفّ اليد مراد ، منه ترك القتال ، كما قال : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح : ٢٤].
والجملة معترضة بين جملة (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٥] والجمل التي بعدها وبين جملة (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٤] الآية اقتضت اعتراضها مناسبة العبرة بحال هذا الفريق وتقلّبها ، فالذين قيل لهم ذلك هم جميع المسلمين ، وسبب القول لهم هو سؤال فريق منهم ، ومحلّ التعجيب إنّما هو حال ذلك الفريق من المسلمين. ومعنى (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أنّه كتب عليكم في عموم المسلمين القادرين. وقد دلّت (إذا) الفجائية على أنّ هذا الفريق لم يكن تترقّب منهم هذه الحالة ، لأنّهم كانوا يظهرون من الحريصين على القتال. قال جمهور المفسّرين : إنّ هاته الآية نزلت في طائفة من المسلمين كانوا لقوا بمكة من المشركين أذى شديدا ، فقالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : «يا رسول الله كنّا في عزّ ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة» واستأذنوه في قتال المشركين ، فقال لهم : «أنّي أمرت بالعفو (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فلمّا هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، وفرض الجهاد جبن فريق من جملة الذين استأذنوه في القتال ، ففيهم نزلت الآية.
والمرويّ عن ابن عباس أنّ من هؤلاء عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقّاص ، والمقداد بن الأسود ، وقدامة بن مظعون ، وأصحابهم ، وعلى هذا فقوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) مسوق مساق التوبيخ لهم حيث رغبوا تأخير العمل بأمر الله بالجهاد لخوفهم من بأس المشركين ، فالتشبيه جار على طريقة المبالغة لأنّ حمل هذا الكلام على ظاهر الإخبار لا يلائم حالهم من فضيلة الإيمان والهجرة.
وقال السديّ : «الذين قيل لهم كفّوا أيديكم» قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال وسألوا أن يفرض عليهم القتال فلمّا فرض القتال إذا فريق يخشون الناس. واختلف المفسّرون في المعنيّ بالفريق من قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) فقيل : هم فريق من الذين استأذنوا في مكة في أن يقاتلوا المشركين ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والكلبي ، وهو ظاهر الآية ، ولعلّ الذي حوّل عزمهم أنّهم صاروا في أمن وسلامة من الإذلال والأذى ، فزال عنهم الاضطرار للدفاع عن أنفسهم. وحكى القرطبي : أنّه قيل : إنّ هذا الفريق هم المنافقون. وعلى هذا الوجه يتعيّن تأويل نظم الآية بأن المسلمين الذين