العندية هنا عندية التأثير التامّ بدليل التسوية في التعبير ، فإذا كان ما جاء من عند الله معناه من تقديره وتأثير قدرته ، فكذلك مساويه وهو ما جاء من عند الرسول. وفي «البخاري» عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء ، وهذا يقتضي أن فعل ذلك من مهاجرة العرب : يقولونه إذا أرادوا الارتداد وهم أهل جفاء وغلظة ، فلعلّ فيهم من شافه الرسول بمثل قولهم : (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ). ومعنى (مِنْ عِنْدِ اللهِ) في اعتقادهم أنّه الذي ساقها إليهم وأتحفهم بها لما هو معتاده من الإكرام لهم ، وخاصّة إذا كان قائل ذلك اليهود. ومعنى (مِنْ عِنْدِكَ) أي من شؤم قدومك ، لأنّ الله لا يعاملهم إلّا بالكرامة ، ولكنّه صار يتخوّلهم بالإساءة لقصد أذى المسلمين فتلحق الإساءة اليهود من جرّاء المسلمين على حدّ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) [الأنفال : ٢٥] الآية.
وقد علّمه الله أن يجيب بأنّ كلا من عند الله ، لأنّه لا معنى لكون شيء من عند الله إلّا أنّه الذي قدّر ذلك وهيّأ أسبابه ، إذ لا يدفعهم إلى الحسنات مباشرة. وإن كان كذلك فكما أنّ الحسنة من عنده ، فكذلك السيّئة بهذا المعنى بقطع النظر عمّا أراده بالإحسان والإساءة ، والتفرقة بينهما من هذه الجهة لا تصدر إلّا عن عقل غير منضبط التفكير ، لأنّهم جعلوا بعض الحوادث من الله وبعضها من غير الله فلذلك قال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي يكادون أن لا يفقهوا حديثا ، أي أن لا يفقهوا كلام من يكلّمهم ، وهذا مدلول فعل (كاد) إذا وقع في سياق النفي ، كما تقدّم في قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].
والإصابة : حصول حال أو ذات ، في ذات يقال : أصابه مرض ، وأصابته نعمة ، وأصابه سهم ، وهي ، مشقّة من اسم الصّوب الذي هو المطر ، ولذلك كان ما يتصرّف من الإصابة مشعرا بحصول مفاجئ أو قاهر.
وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد ، فقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). ووجّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله ، ولأنّ هذا الجواب لإبطال ما نسبه الضالّون إليه من كونه مصدر السيّئات التي تصيبهم.