وأعلم أنّ للحوادث كلّها مؤثّرا. وسببا مقارنا ، وأدلّة تنبئ عنها وعن عواقبها ، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها ، سواء كانت غير اختيارية ، أم اختيارية كأفعال العباد. فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدره وخلق مؤثّراتها وأسبابها ، فهذا الجزء لله وحده لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).
والله أقام بالألطاف الموجودات ، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات ، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة ، لولاها لما بقيت الأنواع ، وساق إليها أصول الملاءمة ، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب ، فالله لطيف بعباده. فهذا الجزء لله وحده لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).
والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية ، والعقلية ، والعادية ، والشرعية ، وعلّم طرائق الوصول إليها ، وطرائق الحيدة عنها ، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يمانعها ، وبعث الرسل وشرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها ، وعواقب ذلك الظاهرة والخفيّة ، في الدنيا والآخرة ، فأكمل المنّة ، وأقام الحجّة ، وقطع المعذرة ، فهدى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف ، ونمّاها بالتفكيرات والإلهامات ، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم ، فهذا الجزء أيضا لله وحده. وأمّا الأسباب المقارنة للحوادث الحسنة والسيّئة والجانية لجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع ، والجهل بتلك الوسائل ، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد ، وباختياره الصالح لاجتناء الخير ، ومقدارا ضدّ ذلك : من غلبة الجهل ، أو غلبة الهوى ، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر ، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها ، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّا فيه ، ملّكه إيّاه ، فإذا جاءت الحسنة أحدا فإنّ مجيئها إيّاه بخلق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه ، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة ، أي الشيء الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى ، فكانت المنّة فيها لله وحده ، إذ لو لا لطفه وإرشاده وهديه ، لكان الإنسان في حيرة ، فصحّ أنّ الحسنة من الله ، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه.
أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى ، ولكن إصابة معظمها الإنسان يأتي من جهله ، أو تفريطه ، أو سوء نظره في العواقب ، أو تغليب هواه على رشده ، وهنالك