مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا» ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. وكان ابن شهاب إذا سأله عن ذلك من يفهم منه أنّه كان قتل نفسا يقول له : «توبتك مقبولة» وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتل نفس ، قال له : لا توبة للقاتل.
وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيدا يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيثبت للقاتل الخلود حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمة أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا ملجأ آخر يأوون إليه في حملها على ما حملت عليه آيات الوعيد : من محامل التأويل ، أو الجمع بين المتعارضات ، فآووا إلى دعوى نسخ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان [٦٨ ، ٦٩] : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ـ إلى قوله ـ (إِلَّا مَنْ تابَ) لأنّ قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمدا أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمدا مما عدّ معها. ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء. ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة. وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نسخت بآية : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، بناء على أنّ عموم (لِمَنْ يَشاءُ) نسخ خصوص القتل. وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مقيس بن صبابة ، وهو كافر ـ فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ «من» شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلّا عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غير ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه. وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر. على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيدا لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود. إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّدا لمدلول الآخر بل إنّما أكّدت الغرض. وهو الوعيد ، لا أنواعه. وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة. وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه.