بيانيا لسائل متردّد ، ولذلك فصلت ، ولذلك صدّرت بحرف التأكيد ، فإنّ حالهم يوجب شكّا في أن يكونوا ملحقين بالكفّار ، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام. ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صدّ عنه أو فتن لأجله.
والموصول هنا في قوّة المعرّف بلام الجنس ، وليس المراد شخصا أو طائفة بل جنس من مات ظالما نفسه ، ولما في الصلة من الإشعار بعلّة الحكم وهو قوله : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ، أي لأنّهم ظلموا أنفسهم.
ومعنى (تَوَفَّاهُمُ) تميتهم وتقبض أرواحهم ، فالمعنى : أنّ الذين يموتون ظالمي أنفسهم ، فعدل عن يموتون أو يتوفّون إلى توفّاهم الملائكة ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت.
و «الملائكة» جمع أريد به الجنس ، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعه ، كما هنا ، ومفرده كما في قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس واحدا ، بقوة منه تصل إلى كلّ هالك ، ويجوز أن يكون لكلّ هالك ملك يقبض روحه ، وهذا أوضح ، ويؤيّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) إلى قوله : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ).
و (تَوَفَّاهُمُ) فعل مضي يقال : توفّاه الله ، وتوفّاه ملك الموت ، وإنّما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل ، لأنّ تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لحاق تاء التأنيث لفعلها ، تقول : غزت العرب ، وغزى العرب.
وظلم النفس أن يفعل أحد فعلا يؤول إلى مضرّته ، فهو ظالم لنفسه ، لأنّه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يفعلوه لوخامة عقباه. والظلم هو الشيء الذي لا يحقّ فعله ولا ترضى به النفوس السليمة والشرائع ، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية.
وقد اختلف في المراد به في هذه الآية ، فقال ابن عباس : المراد به الكفر ، وأنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلىاللهعليهوسلم بمكة ، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا ، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثّروا سواد المشركين ، فقتلوا ببدر كافرين ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج ، فنزلت هذه الآية فيهم. رواه البخاري عن ابن عباس ،