الشريعة. وقد قيل : إنّ المراد بهذه الطيّبات هو ما ذكر في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) ـ إلى قوله ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) في سورة الأنعام [١٤٦] ، فهذا هو الجزاء على ظلمهم.
نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبّار أنّه قال : «نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأنّ التكليف تعريض للثواب ، والتعريض للثواب إحسان ، فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم. قال الفخر : والجواب أنّ المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم».
وهذا الجواب مصادرة على أنّ ممّا يقوّي الإشكال أنّ العقوبة حقّها أن تخصّ بالمجرمين ثمّ تنسخ. فالذي يظهر لي في الجواب : إمّا أن يكون سبب تحريم تلك الطيّبات أنّ ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوة صار ذلك طبعا في أمزجتهم فاقتضى أن يلطّف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع ، ولذلك لمّا جاءهم عيسى أحلّ الله لهم بعض ما حرّم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم ، وإمّا أن يكون تحريم ما حرّم عليهم عقابا للذين ظلموا وبغوا ثمّ بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذكرى ويكون للأوّلين سوء ذكر من باب قوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما من نفس تقتل ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها». ذلك لأنّه أوّل من سنّ القتل. وإمّا لأنّ هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيّبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نيّة الامتثال للنهي ، لندرة حصول هذه النيّة في التّرك.
وصدّهم عن سبيل الله : إن كان مصدر صدّ القاصر الذي مضارعه يصدّ ـ بكسر الصاد ـ فالمعنى بإعراضهم عن سبيل الله ؛ وإن كان مصدر المتعدّي الذي قياس مضارعه ـ بضمّ الصاد ـ ، فلعلّهم كانوا يصدّون النّاس عن التقوى ، ويقولون : سيغفر لنا ، من زمن موسى قبل أن يحرّم عليهم بعض الطيّبات. أمّا بعد موسى فقد صدّوا النّاس كثيرا ، وعاندوا الأنبياء ، وحاولوهم على كتم المواعظ ، وكذّبوا عيسى ، وعارضوا دعوة محمّد صلىاللهعليهوسلم وسوّلوا لكثير من النّاس ، جهرا أو نفاقا ، البقاء على الجاهليّة ، كما تقدّم في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [النساء : ٥١] الآيات. ولذلك وصف ب (كَثِيراً) حالا منه.
وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصّة ويسوغ لهم أخذه من