وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [القصص : ٢٩] أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية :
آنست نبأة وأفزعها القن |
|
اص عصرا وقد دنا الإمساء |
وكأنّ اختيار (آنَسْتُمْ) هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل.
والرشد ـ بضم الراء وسكون الشين ، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل ، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام ، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في (ابْتَلُوا الْيَتامى).
والمخاطب في الآية الأوصياء ، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولّون ذلك ، وقد جعله الفقهاء حكما ، فقالوا : يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عند ما يأنس منه الرشد ، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه.
وقال اللخمي : من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلّا بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشدوهم فيسمحوا لهم بما قبل ذلك. وقال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرئ المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت. إلّا أنّ هذا لم يجر عليه عمل ، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط ، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء ، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلّا بعد ثبوت ذلك لدى القاضي ، وبه جرى العمل.
وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة ، ويتولّى تنفيذه من إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة ، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين ، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي ، ويحصل المطلوب بلا كلفة.
والآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان (حَتَّى) المؤذنة بالانتهاء ، وهو المعروف من المذهب ، وفيه قول أنّه لا يدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ.