تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١].
أمّا كلام الله الوارد للرسول بواسطة الملك وهو المعبّر عنه بالقرآن وبالتّوراة والإنجيل وبالزّبور : فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلّمها الله للملك بكيفية لا نعلمها ، يعلم بها الملك أنّ الله يدلّ ، بالألفاظ المخصوصة الملقاة للملك ، على مدلولات تلك الألفاظ فيلقيها الملك على الرسول كما هي قال تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١] وقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥]. وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدّين. ولكن أمسك بعض أئمّة الإسلام عن التصريح بحدوثه ، أو بكونه مخلوقا ، في مجالس المناظرة التي غشيتها العامّة ، أو ظلمة المكابرة ، والتحفّز إلى النبز والأذى : دفعا للإيهام ، وإبقاء على النسبة إلى الإسلام ، وتنصّلا من غوغاء الطعام ، فرحم الله نفوسا فتنت ، وأجسادا أوجعت ، وأفواها سكتت ، والخير أرادوا ، سواء اقتصدوا أم زادوا. والله حسيب الذين ألّبوا عليهم وجمعوا ، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا.
وقوله (تَكْلِيماً) مصدر للتوكيد. والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسبة وتحقيقها مثل (قد) و (إنّ) ، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز ، ولذلك أكّدت العرب بالمصدر أفعالا لم تستعمل إلّا مجازا كقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فإنّه أراد أنّه يطهّرهم الطهارة المعنوية ، أي الكمال النفسي ، فلم يفد التأكيد رفع المجاز. وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذمّ زوجها روح بن زنباع :
بكى الخزّ من روح وأنكر جلده |
|
وعجّت عجيجا من جذام المطارف |
وليس العجيج إلّا مجازا ، فالمصدر يؤكّد ، أي يحقّق حصول الفعل الموكّد على ما هو عليه من المعنى قبل التّأكيد.
فمعنى قوله : (تَكْلِيماً) هنا : أنّ موسى سمع كلاما من عند الله ، بحيث لا يحتمل أنّ الله أرسل إليه جبريل بكلام ، أو أوحى إليه في نفسه. وأمّا كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفرق ، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الّذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف. وقد حكى ابن عرفة أنّ المازري قال في «شرح التلقين» : إنّ هذه الآية حجّة على المعتزلة في قولهم : إنّ الله لم يكلّم موسى مباشرة بل بواسطة خلق الكلام لأنّه أكّده بالمصدر ، وأنّ ابن عبد السلام التّونسي ، شيخ ابن عرفة ، ردّه بأنّ التأكيد بالمصدر لإزالة