من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد. لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلّا عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادة المعنى ولازمه. والمخاطب بقوله : (وَلا تَقُولُوا) خصوص النّصارى.
و (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدأ محذوف كان حذفه ليصلح لكلّ ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ (ثَلاثَةٌ) من الأسماء الدّالة على الإله ، وهي عدّة أسماء. ففي الآية الأخرى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣]. وفي آية آخر هذه السورة (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كلّ واحد منهم إله ؛ ولكنّهم يقولون : أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد. قال في «الكشّاف» : (ثلاثة) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنّهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلّا فتقديره الآلهة ثلاثة ا ه.
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم ، ولكنّهم مختلفون في كيفيته. ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى (ثالوث) ، أي أنّه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقنوم ـ بضم الهمزة وسكون القاف ـ. قال في «القاموس» : هو كلمة رومية ، وفسّره القاموس بالأصل ، وفسّره التفتازانيّ في كتاب «المقاصد» بالصفة. ويظهر أنّه معرّب كلمة (قنوم بقاف معقد عجمي) وهو الاسم ، أي (الكلمة). وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة (آبا ـ ابنا ـ روحا قدسا) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو ـ الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات.
والأقنوم الثاني أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دون الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية.
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات.
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم