إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعها ممّا يصلح لذلك الاستثناء ، فهو استثناء لهؤلاء : من حكم نقض العهد ، ومن حكم الإنذار بالقتال ، المترتّب على النقض ، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم.
والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة ، وقد بين مدلول الاستثناء قوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).
وحرف (ثم) في قوله : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) للتراخي الرتبي ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول.
والنقص لشيء إزالة بعضه ، والمراد : أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه. وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ (ثمّ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة ، أي بعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه ، بعد كمال وارتفاع شأن. فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به.
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين ، ووفّوا به على أتمّ وجه ، فلم يكيدوا المسلمين بكيد ، ولا ظاهروا عليهم عدّوا سرّا ، فهؤلاء أمر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها. ومن هؤلاء : بنو ضمرة ، وحيّان من بني كنانة : هم بنو جذيمة ، وبنو الدّيل. ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية.
وقد علم من هذا : أنّ الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك ، وهم قوم نقصوا ممّا عاهدوا عليه ، أي كادوا ، وغدروا سرّا ، أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة.
ومن هؤلاء : قريظة أمدّوا المشركين غير مرّة ، وبنو بكر ، عدوا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعبّر عن فعلهم ذلك بالنقص لأنّهم لم ينقضوا العهد علنا ، ولا أبطلوه ، ولكنهم أخلّوا به ، ممّا استطاعوا أن يكيدوا ويمكروا ، ولأنّهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه.
وذكر كلمة (شَيْئاً) للمبالغة في نفي الانتقاص ، لأنّ كلمة «شيء» نكرة عامّة ، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود ، كما تقدّم في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) في سورة البقرة [١١٣].
والمظاهرة : المعاونة ، يجوز أن يكون فعلها مشتقّا من الاسم الجامد وهو الظهر ،