والتعريف في (الثَّلاثَةِ) تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس ، وهم : كعب بن مالك من بني سلمة ، ومرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف ، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر. ولما رجع النبيصلىاللهعليهوسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا. ونهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس عن كلامهم ، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم. ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة. وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم» طويل أغر وقد ذكره البغوي في «تفسيره».
و (خُلِّفُوا) بتشديد اللام مضاعف خلف المخفف الذي هو فعل قاصر ، معناه أنه وراء غيره ، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء. والمقصود بقي وراء غيره. يقال : خلف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشيء يخلف بضم اللام في المضارع ، فمعنى (خُلِّفُوا) خلّفهم مخلّف ، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم. فيجوز أن يكون (خُلِّفُوا) بمعنى خلّفوا أنفسهم على طريقة التجريد. ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفا مجازيا استعير لتأخير البت في شأنهم ، أي الذين خلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا آيسهم من التوبة كما آيس المنافقين. فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء. وبهذا التفسير فسره كعب بن مالك في حديثه المروي في «الصحيح» فقال : وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. اه.
يعني ليس المعنى أنهم خلّفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلّفهم أحد ، أي جعلهم خلفا وهو تخليف مجازي ، أي لم يقض فيهم. وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبيصلىاللهعليهوسلم أو الله تعالى.
وبناء فعل (خُلِّفُوا) للنائب على ظاهره ، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم.
وتعليق التخليف بضمير (الثَّلاثَةِ) من باب تعليق الحكم باسم الذات. والمراد : تعليقه بحال من أحوالها يعلم من السياق ، مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣].
وهذا الذي فسّر كعب به هو المناسب للغاية بقوله : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيق أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف ، وليس غاية لتخلفهم عن الغزو ، لأن تخلفهم لا انتهاء له.