عتابا إلهيا على نسيانهم التوكّل على الله في النصر ، واعتمادهم على كثرتهم ، ولذلك روي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين «لن نغلب من قلّة» ساءه ذلك ، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه ، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلّا كتائب العدوّ وقد شدّت عليهم وقيل : إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم ، وكانت هوازن قوما رماة فاكثبوا المسلمين بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وتفرّقوا في الوادي ، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلىاللهعليهوسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم العباس عمّه أن يصرخ في الناس : يا أصحاب الشجرة ـ أو السمرة ـ يعني أهل بيعة الرضوان ـ يا معشر المهاجرين ـ يا أصحاب سورة البقرة ـ يعني الأنصار ـ هلمّوا إلي ، فاجتمع إليه مائة ، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبيصلىاللهعليهوسلم واجتلد الناس ، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الآن حمي الوطيس» فكانت الدائرة على المشركين وهزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسبيت نساؤهم
. فذلك قوله تعالى : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم ، بحال من يرى الأرض الواسعة ضيّقة.
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله : (بِما رَحُبَتْ) استعير (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) استعارة تمثيلية تمثيلا لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره ، بحال من هو في مكان ضيّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه.
فالباء للملابسة ، و (بِما) مصدرية ، والتقدير : ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها : أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح بن حكيم :
ملأت عليه الأرض حتّى كأنّها |
|
من الضيق في عينيه كفة حابل |
قال الأعلم «أي من الزعر» هو مأخوذ من قول الآخر :
كأنّ فجاج الأرض وهي عريضة |
|
على الخائف المطلوب كفّة حابل |