الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨))
هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله ، بطريقة العتاب على التباطؤ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد ، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية : «لا اختلاف بين العلماء في أنّ هذه الآية نزلت عتابا على تخلّف من تخلّف عن غزوة تبوك ، إذ تخلّف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون» فالكلام متّصل بقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ـ وبقوله ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ إلى قوله ـ (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة : ٢٩ ـ ٣٥] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات.
وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة ، وكان ذلك في وقت حرّ شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، حين نضجت الثمار ، وطابت الظلال ، وكان المسلمون يومئذ في شدّة حاجة إلى الظهر والعدّة. فلذلك سمّيت غزوة العسرة كما سيأتي في هذه السورة ، فجلى رسول الله للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوّهم ، وأخبرهم بوجهه الذي يريد ، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلّا ورّى بما يوهم مكانا غير المكان المقصود ، فحصل لبعض المسلمين تثاقل ، ومن بعضهم تخلّف ، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقّب بالوعيد.
فإنّ نحن جرينا على أنّ نزول السورة كان دفعة واحدة ، وأنّه بعد غزوة تبوك ، كما هو الأرجح ، وهو قول جمهور المفسّرين ، كان محمل هذه الآية أنّها عتاب على ما مضى وكانت (إِذا) مستعملة ظرفا للماضي ، على خلاف غالب استعمالها ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ) [التوبة : ٩٢] الآية ، فإنّ قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٧٥] صالح لإفادة ذلك ، وتحذير من العودة إليه ، لأنّ قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا) و (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) و (انْفِرُوا خِفافاً) مراد به ما يستقبل حين يدعون إلى غزوة أخرى ، وسنبيّن ذلك مفصّلا في مواضعه من الآيات.
وإن جرينا على ما عزاه ابن عطية إلى النقاش : أنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) هي أول آية نزلت من سورة براءة ، كانت الآية عتابا على تكاسل وتثاقل ظهرا على بعض الناس ، فكانت (إِذا) ظرفا