بقى في المقام أمران :
الأول : أنه قد يتوهم أن ما ذكرناه في معيار التزاحم من الاكتفاء بإحراز الملاكين لا يناسب ما هو المعلوم من أن الملاك بنفسه لا يصلح للإلزام عقلا ما لم يترتب عليه جعل التكليف من قبل المولى ، ولذا لا يجب عقلا إطاعة الأوامر والنواهي الواردة بداعي الإرشاد للمصالح والمفاسد الواقعية ، وينحصر وجوب الإطاعة بالأوامر والنواهي المولوية التي ينتزع منها التكليف. ومن ثمّ قيل بوجوب اللطف منه تعالى بجعل التكاليف حفظا للملاكات الواقعية.
ولذا لا ينبغي التأمل في أن اجتماع مقتضيات الأحكام المختلفة في الموضوع الواحد ـ المعبر عنه بالتزاحم الملاكي ـ لا يقتضي جريان أحكام التزاحم الذي نحن بصدده ، فليس للمكلف النظر في ترجيح أحدهما بالأهمية ، فضلا عن احتمالها ، ولا التخيير مع عدمها ، بل الأمر موكول للمولى ، فمع إحراز جعله الحكم على طبق أحدهما لأهميته بنظره ، أو جعله حكما آخر غيرهما يتعين العمل عليه ، ومع الجهل بذلك يتعين التوقف.
نعم ، قد يكون العلم بأهمية أحدهما موجبا للعلم بجعل المولى للحكم على طبقه ، فيكون العمل تابعا للحكم الشرعي ، لا للملاك. ومع ذلك لا وجه للاكتفاء في التزاحم الحكمي ـ الذي هو محل الكلام ومورد ما اشير إليه من الأحكام ـ بإحراز الملاكين وعدم اعتبار جعل نفس الحكمين اللذين هما موضوع العمل. كيف! ويمكن فرض التزاحم بناء على عدم توقف الأحكام على الملاكات كما هو مختار الأشاعرة. هذا حاصل ما يقال في المقام.
ولدفع هذا التوهم وتوضيح الفرق بين التزاحم الحكمي والملاكي نقول : ـ بعد الاستعانة به تعالى والتوكل عليه ـ ليس المراد بالملاك المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام ، أو المصالح في نفس جعل الحكم التي لا بد منها بناء على التحسين والتقبيح العقليين ـ كما هو مختار العدلية ـ بل مطلق المقتضيات