المحسوسات. فإذن جلّ أقاويلهم يقتضي الوقوف بالمحسوسات التي هي مبادئ جميع العلوم ، فكيف ساغ له (١) أن ينقل عنهم أنّهم قالوا : المحسوسات لا تكون يقينية؟ بل أنّهم بيّنوا أحكام العقل في المحسوسات أيّها تكون يقينية ، وأيّها تكون غير يقينية.
فإذن الصواب والخطأ إنّما يعرضان للأحكام العقلية ، لا على المحسوسات من حيث هي محسوسات. ولو كانت الأحكام التي تقع في معرض الغلط غير موثوق بها ، لكانت المعقولات الصرفة أيضا غير موثوق بها ؛ لكثرة وقوع الغلط للعقلاء فيها ، ولما جعل لبيان مواضع الغلط في المعقولات ولا في المحسوسات صناعة كصناعتي سوفسطيقا والمناظر.
وإذا تمهّد هذا فالنظر والبحث لا يمكن تمهيدهما إلّا بعد حصول العلم والاتفاق في مقدمات هي المبادئ ، ولو لم تكن المبادئ الأولى معلومة أو موضوعة لم يمكن نظر في شيء ولا بحث عن شيء ، فإنّ النظر والبحث يقتضيان التأدي من أصل حاصل إلى فرع مستحصل ، وإذا لم يكن الأصل حاصلا ، امتنع التأدي من لا شيء إلى شيء ، ولهذا لم يمكن البحث مع منكري المحسوسات والأوّليات أصلا ، ومن يتكلّم معهم يقصد إرشادهم وتنبيههم أو تحصيل اعتراف منهم بنوع من الحيل إلى أن يحصل لهم استعداد أن ينظروا في شيء أو استحقاق أن يباحثوا في شيء.
فإذن الشكوك التي أوردها على لسان قوم مفروض يعبّر عنهم بالسوفسطائية ، فإنّه لا تستحق الجواب أصلا. إنّما يجاب من يثق أو يعترف بالوقوف على الأوّليات والمحسوسات ، ببيان التفصّي عن مضائق مواضع الغلط بذكر أسباب الغلط وإحالة تصويب الصواب ، وتخطئة الخطأ بعد ذلك إلى
__________________
(١) أي للرازي صاحب المحصل.