لأنّا نقول : هب أنا فرضنا خلوّ النفس عن المزاج والعادة ، لكن فرض الخلوّ لا يوجب حصول الخلوّ ، فلعلّنا وإن فرضنا خلوّ النفس عنهما لكنّها ما خلت عنهما ، وحينئذ يكون الجزم بسببهما ، لا بسبب العقل.
سلّمنا أنّ فرض الخلوّ يوجب الخلوّ ، لكن لعلّ في نفوسنا من الهيئات المزاجية والعاديّة ما لا نعرفه على سبيل التفصيل ، وحينئذ لا يمكننا فرض خلوّ النفس عنهما (١) ، وذلك سبب التهمة.
قال أفضل المحققين : أمّا استحسان الأشياء واستقباحها فسيأتي. وأمّا مقتضيات الطبائع والعادات والديانات ، فلا شكّ في كونها مؤثرة في اعتقادات العوام ، لكنّها لا تعارض متانة الحقّ الذي يعترف (٢) به جميع العقلاء حتّى البلّه والصبيان والمجانين. وقد حذّر العلماء طالبي الحق عن متابعة الأهواء والطبائع والعادات ، بمثل قول القائل : «رؤساء الشياطين ثلاثة : شوائب الطبيعة ، ووساوس العادة ، ونواميس الأمثلة». ولا شكّ أنّ البديهيات لا تنقدح بها. (٣)
قالت السوفسطائية : إمّا أن تشتغلوا بالجواب عمّا ذكرناه أو لا. فإن اشتغلتم بالجواب حصل غرضنا ؛ لأنّكم حينئذ تكونون معترفين بأنّ الإقرار بالبديهيات لا يصفو عن الشّوائب إلّا بالجواب عن هذه الإشكالات ، ولا شكّ أنّ الجواب عنها لا يحصل إلّا بتدقيق النظر ، والموقوف على النظريّ (٤) أولى أن يكون نظريا ، وكانت البديهيات مفتقرة إلى النظريات المفتقرة إلى البديهيات ، هذا خلف.
وإن لم تشتغلوا بالجواب بقيت الشبهة (٥) المذكورة خالية عن الجواب. ومن
__________________
(١) المحصل : «عنها».
(٢) في المخطوطة : «يعرف» والصحيح ما أثبتناه من المصدر.
(٣) نقد المحصل : ٤٤.
(٤) ق : «النظر».
(٥) المحصل : «الشّبه».