وهو يختلف كثرة وقلة باختلاف الأذهان ذكاء وبلادة ، ويتفاوت بحسب تفاوتهم ، حتى أنّ الإنسان ربّما أكبّ طول عمره على تعلم مسألة ويمنع منها ، وبعضهم ربّما التفت بذهنه الصائب أدنى التفات فأصاب مطلوبه. ولما تفاوتت الدرجات لم يبعد وجود نفس بالغة أقصى مراتب الكمال في القوّة وسرعة الاستعداد لإدراك الحقائق حتى كأنّه يحيط علما بحقائق الأشياء من غير طلب وشوق ، بل ينساق ذهنه إلى النتائج حتى يحيط بغايات الكمالات الإنسية (١). وتخالف هذه النفس باقي النفوس كمّا وكيفا.
أمّا الكم فلكثرة استحضارها للحدود الوسطى.
وأمّا الكيف فلسرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب.
وتخالف باقي النفوس بوجه آخر ، وهو تقع على الحدّ الأوسط من غير تقدّم تعيين المطلوب ، بخلاف باقي النفوس فإنّها تعين المطلوب أوّلا ثمّ تطلب المبادئ الملائمة له ، ثمّ ترتّب هذه المبادئ ترتّبا صحيحا ملائما ، ولا يعرض الغلط في الأوّل ؛ لأنّ الانسباق إلى النتيجة طبيعي. أمّا في الثاني فلما كان فكريا أمكن أن يعرض فيه الغلط لأنّه كالتكلّفي.
واعلم (٢) أنّه لا يشترط في العلم بالشيء وجود الفكر ، خلافا لمن توهم حاجة النفس في علومها إلى الفكر ، ومنع من علمها بعد مفارقة البدن لفساد آلة الفكر الذي هو شرط. وهو غلط لأنّ المعارف العقلية لو توقفت على الفكر ـ إمّا توقّف المسبب على السبب ، أو المشروط على الشرط ـ لكانت المعارف مقارنة للأفكار ، لكن التالي باطل ، فإنّ الإنسان حالة فكره يكون طالبا للنتيجة ، فلا بدّ وأن يكون
__________________
(١) وتسمّى هذه القوة ب «القوة القدسية» وقال ابن سينا : «وهذا ضرب من النبوة ، بل أعلى قوى النبوة والأولى أن تسمّى هذه القوّة قوّة قدسية وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية» راجع نفس المصادر.
(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.