ذلك الخلو إمّا أن يكون ذاتيا لها أو لازما أو عرضيا مفارقا. والأوّلان باطلان ، وإلّا لم تصر عاقلة أبدا لامتناع الخلو عن الصفة الذاتية واللازمة. والثالث باطل ، لأنّ العرضيات تطرأ على الذاتيات (١) ، فلو لم يكن علمها بالأشياء ذاتيا لها لم يكن خلوها من العلم عرضيا. ثم إنّها لاشتغالها بالبدن وتدبيره تغفل عن الالتفات إلى لوازمها وذاتياتها.
وهذه الحجة فاسدة ، لأنّا لا نقول : النفوس تقتضي عدم العلم ، بل لا تقتضي وجود العلم ، فالعلم ممكن الحصول إذا وجد سببه الخارجي وجد ، وإن لم يوجد لم يوجد لكن ليس كل ما لم يوجد ممتنعا ان يوجد ، وإلّا لم يكن ممكن ما معدوما ، ويبطل قولهم : إنّ الصورة العقلية إمّا أن تكون حاضرة في النفس موجودة فيها بالفعل أو لا. فإن كانت حاضرة بالفعل وجب أن يكون لها شعور بذلك الحضور ، إذ ليس معنى الشعور إلّا الحضور ، وإن لم تكن حاضرة بالفعل لم يكن ذاتيا ، لأنّ الذاتي لا يفارق. ومن جعله حالة إضافية افتقر إلى الاستدلال على فساد هذا الاحتمال ، أن تكون هذه الصور حاضرة أبدا ، لكن لعدم تلك الحالة المسماة بالعلم لا يحصل الشعور بها كما في الصور الخيالية ، فإنّها حاضرة عنده غير مشعور بها ، لكنه لم يدل دليل على إثباتها فلم يجز إثباتها.
الثالث : (٢) ذهب بعض القدماء (٣) القائلين بقدم النفس ، حيث عرفوا بطلان قول من زعم : «أنّ علم النفس بالمعلومات أمر ذاتي» ، وتركوا ذلك إلى أنّها كانت قبل التعلق بالأبدان عالمة بالمعلومات ، وتلك العلوم ليست ذاتية فزالت
__________________
(١) ج : «الذاتية».
(٢) راجع نفس المصدر : ٤٩٧ ـ ٤٩٨.
(٣) يعنى به افلاطون (٤٢٨ ـ ٣٤٨ ق م) في نظريته المعروفة بنظرية استذكار المعلومات السابقة. وهذه النظرية قائمة على اعتقاده بمسألتين : الايمان بالأنواع أو المثل ، والايمان بخلق الأرواح قبل الأبدان. كما أكد أيضا على أنّ الظواهر أمور فانية ، وليست أصولا باقية ، والعلم الحقيقي ـ