والحق أن يقال : كما أنّ التصديقات الكسبية يجب انتهاؤها إلى تصديقات غنية عن البرهان ، كذا التصورات الكسبية يجب انتهاؤها إلى تصورات غنية عن التعريف ، وكما أنّ القضايا الحسية بالحس الظاهر أو الباطن كعلم الإنسان بألمه ولذته لا تحتاج إلى برهان ، فكذا تصورات هذه الأمور ؛ فإنّ كل عاقل حساس يدرك الألم واللذة ، ويفرق بينهما ويميّز كلا منهما عن صاحبه ويميزهما معا عما غايرهما ادراكا ضروريا لا يحتاج فيه إلى كشف وبمهما(١) عرفا به كانا أعرف منه (٢).
بقي هنا بحث مهم : وهو أنّ الحال التي يجدها الملتذ عند لذته التي سمّيناها باللذة هل هي نفس ادراك الملائم أو مغايرة له؟ وبتقدير مغايرتها للإدراك هل هي معلول ذلك الإدراك ، أو معلول شيء آخر؟ وإن كانت لا توجد إلّا مع ذلك الإدراك. فهذه الأمور يجب تحصيلها.
وأمّا قولهم : «إنا نجد اللذة بهذا الإدراك فيكون هو هو» ، فإنّه راجع إلى الاحتجاج باللفظ فإنّ للسائل أن يقول : إن كنت جعلت اسم اللذة اسما لهذا الإدراك فلا منازعة ، لكن لم قلت : إنّ الحالة المخصوصة التي نجدها من النفس هي نفس هذا الإدراك؟ ومعلوم أنّ هذا المقصود لا يحصل بهذا الطريق. فنقول : أمّا الاستقراء فقد دل على أنّ هذه الحالة لا تحصل لنا إلّا إذا أدركنا ما يلائم مزاجنا ، وإن كان للنزاع فيه مجال. لأنّا نلتذ بالرئاسة وإن لم تكن من حيث هي ملائمة لمزاجنا.
وأمّا أنّه هل يمكن حصول تلك الحالة دون هذا الإدراك وإن كان أقليّا؟ فهو مشكوك فيه. ثم بتقدير المساعدة على أنّ الحالة المسماة باللذة لا تحصل إلّا
__________________
(١) كذا.
(٢) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥١٣ ـ ٥١٤.