وبالعكس. فإذن لا بدّ من التمييز فيها بين الحقّ والباطل بالدليل المركب من المقدمات الضرورية ، فيتوقف كلّ منهما على الآخر ويدور.
لا يقال : ليس الطريق إلى تمييز الضروريات من غيرها الاستدلال ، ولا مطلق جزم العقل بذلك ، بل بأن يفرض الإنسان نفسه خالية عن جميع الهيئات (١) النظرية والعلمية من العقائد والأديان ، والرقة والألفة والعادة ، فكل ما يجزم به العقل حينئذ يكون ضروريا لاستناده إلى فطرة العقل لا غير ، وما لا يجزم به يكون غير ضروري ، بل يكون مستندا إلى أحد هذه الأمور.
لأنّا نقول : هذا باطل من وجوه :
الأوّل : الهيئات المستندة إلى العادة تصير ملكات مستقرة في النفس ، وهي لا تزول عند ما نحاول زوالها ، وإذا تعذر زوالها وهي مانعة من الجزم بمقتضى العقل ، فإذن لا يصحّ الوثوق بشيء من أحكام العقل.
والحاصل أنّ فرض الخلو لا يوجب الخلو ، فيتعذر حينئذ الفرق بين ما يستند إلى الفطرة العقلية وما يستند إلى هذه الأمور.
الثاني : هب أنّ هذه الهيئات (٢) والملكات ممكنة الزوال بمحاولتنا إزالتها ، لكن من الجائز أن تبقى في النفس هيئة لا نشعر بها على التفصيل في تلك الحالة ، فحينئذ لا نشتغل بإزالتها وإن كنّا قد أزلنا سائر الهيئات ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق به.
الثالث : هب أنّا نقطع بزوال جميع الهيئات ، ولكن في هذه الحالة قد نجد العقل جازما بأمور مختلفة الصحّة ، فإنّه لا يمكننا أن نتصور الأجسام وانتهاءها لا إلى خلاء ولا إلى ملاء ، ولا أيضا نتصور انتهاء الزمان وجملة الحوادث إلى ما لا
__________________
(١) و (٢) ق : «الماهيات» ، وهو خطأ.