ويقول في الآية الثانية التي تمَّ بيانها ضمن آيات التوحيد في سورة النحل ، بعد تعداد بعض آيات الآفاق ونِعَمِ الخالق جلَّ وعلا : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَق ظِلَالاً).
قال بعض المفسّرى : إنَّ المقصود هنا الأشياء التي تتسبب في ايجاد الظّلال ، كالجبال والأشجار ، والغيوم ، والسقوف والجدران (١).
وممّا لا شكَّ فيه لو كانت جميع الاشياء ـ كما المحنا سابقاً ـ شفافةً ومضيئة كالبلور ، ولا وجود للظلِّ في العالم لكانت الحياة غير ممكنة بالنسبة للإنسان.
ويشير سياق الآية إلى سائر النِّعم التي هي في الواقع مكملةً لوجود الظلِّ ، كالملاجىء المستحدثة في الجبال على هيئةِ مغاراتٍ وكهوف ، والتي تقي الإنسان من حرارةِ الشمس المحرقة ، كالدرع حينَ يَصُدُّ طعنات العدو في ساحة الحرب : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبَالِ أَكنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابيْلَ تَقِيْكُمْ بَأسَكُمْ) (٢).
وهنا لماذا أشار في الآية الآنفة إلى اللباس كوقاءٍ للحفظ من الحَرِّ فقط ، من دون الإشارة إلى البرد؟ يقول بعض المفسِّرين : لأنَّ المناطق التي نزلت فيها هذه الآيات ، المتداول فيها مسألة الحر بكثرة ، أو لكثرة وزياده اخطار الحرارة والاحتراق عند مواجهة الشمس ، في حين تتزايد طرق وقاية الإنسان لمواجهة البرد.
ولكن لا يجب نسيان أنّ في آداب العرب حينما يريدون التلميح إلى ضدّين فهم يحذفون أحدَهُما في أغلب الموارد ويذكرون واحداً فقط ، وهذا الأثر له قرائن كثيرة.
والجدير بالاهتمام أنّه يقول في نهاية هذه الآية بعد ذكر هذه النِّعم الثلاث (الظلال ، والمساكن ، والملابس) : (كَذلِكَ يُتِمٌّ نِعْمَتَهُ عَلَيِكُم لَعَلَكُمْ تُسْلِمُونَ).
نعم .. فالتأمل بهذه النِّعَمِ وأسرارها المختلفة يعرِّفُ الإنسان بعلمِ وقدرة الله تعالى من ناحيةٍ ، ومن ناحيةٍ اخرى يدفعُ إلى التسليم إلى أوامر الخالق جلَّ وعلا ذي اللطف والرحمة ، من خلال تحريك الشعور بالشُّكر له.
__________________
(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٤ ، ص ١٨٦ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٧٧٥.
(٢) «سرابيل» جمع «سربال» (على وزن مثقال) وقد فسَّرها البعض بكل أنواع الملابس ، واعتبرها البعض بمعنى الرداء (حيث يرتدون الدرع كالرداء) إلّاأنّ المعنى الأول اكثرُ تناسباً هنا.