وفي هذه الفترة بالذات أيضا ، استطاع الشيخ المفيد وتلميذه الشريف المرتضى وتلامذتهما ، أن ينشطوا للقيام بواجبهم الديني والعلمي دون خوف أو تقية ، وأن يتغلغلوا في دفع الفكرة الشيعية إلى المناطق التي كانت موصدة أمامهم من قبل ، كإيران وأكثر جهات العراق وسوريا ، وأن يبرزوا التشيع في حقيقته النقية الصافية الممدودة بالمنطق والأدلة العلمية ، وقد أخذوا على عاتقهم مهمة الدعوة الإسلامية ، وصد هجمات الملاحدة من القرامطة والغلاة وغيرهما.
وكان أبو الفتح الكراجكيّ من أبرز من تحملوا المسؤولية في هذا السبيل. وكان الدور الذي قام بأعبائه مهما وخطيرا. فقد قدّر له أن يعيش في هذا الثغر الشاميّ وفي الساحل اللبناني ، ليقوم بترسيخ العقيدة الإسلامية ، والحد من النزعة الإسماعيلية ، يوم كانت فلسطين ولبنان واقعة تحت نفوذ الدولة الفاطمية ، وحين كانت الفكرة الإسماعيلية الفاطمية تعيش في أكثر بقاعها.
وقد اختار الكراجكيّ مدينة طرابلس اللبنانية قاعدة لانطلاقه وعمله ، حين كان أمراء بني عمّار الشيعة يتولون حكمها ، ويسيطرون عليها.
ومن هذه القاعدة = طرابلس = انطلق الشيخ الكراجكيّ يناظر ويجادل ويعلم ، بكل ما يملك من طاقة علمية وفكرية ، وصمد في وجه الموجة الإسماعيلية العارمة ، واستطاع أن يحد من نشاطها ، حتى انحسرت عن أكثر هذه المنطقة ، وحلت مكانها الفكرة الشيعية الإماميّة ، وأصبحت مذهب الأكثرية لسكان المناطق الساحلية في ذلك العهد.
وشمل في نشاطه مقاومة سائر المخالفين ، كالمعتزلة والأشاعرة ، وأهل الديانات الأخرى ، كاليهود والنصارى والبراهمة وسواهم ، كما يبدو ذلك من كتبه والفصول التي أدرجها في كتابه (كنز الفوائد).
كل ذلك بفضل جهوده المتواصلة ، وبما كان يملكه من شدة المعارضة وروح الجدل ، ووفور : العلم ، وعمق الملاحظة ، وتنوع الثقافة ، وقوة الحجة ، وبما كان يتمتع به من وعي وإدراك ، ومن حيوية وحركة وصبر وعمل دائب.