مستوى عالم الجعل والباعثيّة وإشغال العهدة. إذ هنا عالمان :
١ ـ عالم الحب والبغض المسمّى بعالم مبادئ الوجوب : في هذا العالم لا بأس بأن يكون غرض المولى متمثلا في حبّه دفن الميّت ، من دون أن ينظر إلى المكلّفين. فلو أنّ غرابا وارى هذا الميت لحصل المحبوب ، لأنّه غير مشروط بدفن الإنسان له ، مضافا إلى أنّ المصلحة قائمة بذات الدفن دون أن يكون لصدور الدفن من مكلف دخل في المصلحة ، حيث لا يلزم أن يكون هناك من يجب عليه هذا الفعل ، وإن كان الحب من الصفات الإضافية التي تحتاج إلى متعلق «يحب». فهو مضايف مع المحبوب ، إذن فعدم وجود موضوع للوجوب الكفائي بحسب عالم الحب ، أمر معقول.
٢ ـ عالم الخطاب والباعثيّة والتحريك : فالأمر غير معقول ، لأنّ الباعثية مضايفة للمبعوث ، لا للمبعوث عنه ، إذ لا يتصور باعث بلا مبعوث ، ولو كان هناك مبعوث نحوه ، وكذلك إشغال العهدة فإنّه بغير ذي عهدة ، أمر غير معقول إذ لا بدّ من فرض ذي عهدة لكي تشتغل بذلك عهدته ، فاشتغال العهدة مضايف مع من تشتغل عهدته. إذن فلا يعقل في هذا العالم افتراض باعثيّة وتحريك من دون طرف هو المكلّف.
ومن هنا كان فرض الوجوب الكفائي بلا موضوع على مستوى الجعل والخطاب ، غير معقول. بل حتى لو تنازلنا عن ذلك فافترضنا ـ في أحسن الحالات ـ أنّ تعلّق التكليف بالفعل بلا مكلّف ، أمر معقول ، فكما قلنا في عالم الحب ومبادئ الحكم : إنّ هذا يكفي في إشغال العهدة بحكم العقل ، كذلك نقول هنا في عالم الخطاب والتحريك. أقول : حتى لو قلنا بذلك ، فإنّنا نحتاج إلى الرجوع إلى بعض التفاسير التي تقدمت في تفسير الوجوب الكفائي وكيفية اشتغال العهدة بشكل يتناسب مع خصائص الوجوب الكفائي التي ذكرناها. وعليه ، فهذا الفرض غير تام ، بعد أن عرفت الصحيح منه.