ويمكن الاستدلال لجواز الدفع مطلقا وفي جميع الأحوال ، بالسيرة القطعية المتصلة ، فإن سيرة العقلاء والمسلمين على دفع اللصوص والسباع والحشرات والهوام على أنفسهم وعيالهم ومواشيهم وممتلكاتهم ، من غير أن يفكروا فيما يفعله المدفوع بعد دفعه ، بل يفعلون ذلك ، وهم يعلمون بحسب العادة ، أن اللص إذا طرد لا يعود إلى منزله ، بل يذهب في مهمته إلى أماكن أخرى ، ومثله الذئب والجراد وغيرهما ، فإن الذئب يطلب رزقه من المواشي والجراد من المزارع ، ويؤيد هذا : أن الناس لا ينكرون طرد اللصوص والسباع والحشرات ، وإن عاثت في أملاك غيرهم ، ولا نعرف في الشريعة دليلا يردعهم ، وفي عدم الردع تقرير لهم ، مضافا إلى إمكان دعوى ثبوت التقرير ، بالاطلاقات التي أشرنا إليها آنفا.
ويمكن أن يقال : أن السيرة بقسميها لبية ، والقدر المتيقن منها ما عدا صورة العلم بأضرار الغير ، ولا سيما إذا كان معينا ، كما لو طرد الذئب عن ماشيته ، أو الجراد عن زرعه ، عالما بأنه سيذهب إلى ماشية أو زرع جاره. وفيه : أن سيرة الزراع والرعاة على طرد ابن أوى والذئب وغيرهما من الحيوانات الضارة بالزرع والماشية ، وهم يعلمون بذلك ، بل قد يكون ذلك بمرأى ومسمع من المجاورين ، وهم يرون أن كل واحد منهم مسئول عن حماية ما يتعلق به.
وهل يجب على الدافع عن ماله ، أن يعين جاره على دفع الضرر عن نفسه ، مقتضى الأصل العدم ، ومقتضى ملاحظة ظاهر النصوص الآمرة بالتعاون على البر ، والناهية عن التعاون على الإثم والعدوان هو وجوب التعاون على البر ، وحرمة التعاون على الإثم ، ومقتضى ملاحظتها أجمع هو استحباب التعاون على البر وكراهة التعاون على الإثم إلا إذا كانت المعاونة عليه تعد تسبيبا أو مباشرة على نحو تصحح نسبة فعل المحرم للمعين. فيكون من التسبيب المحرم (١).
نعم ، ربما يجب ذلك في بعض الموارد من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاشتراك التكليف بينهم ، إذا كان هذا الواجب الكفائي لا يتحقق
__________________
(١) وهذا هو الضابط الفارق بين التسبيب المحرم والتسبيب غير المحرم.