والذي يستظهر من جملة من الكلمات أنّ هذا المحذور ليس المقصود منه أنه يلزم منه خلاف مقتضى أدلّة قطعية أخرى واضحة الدلالة وإلّا لقيل : إنّ التمسّك بإطلاق دليل" لا ضرر" أو أنّ القول بالإباحة في المعاطاة أو أنّ التمسّك بإطلاق القرعة في أخبار القرعة معارض بالأدلّة الكذائية التي تدلّ على خلاف ذلك ، وهي أقوى دلالة وأوضح سنداً ، وليس المقصود أيضاً أن ذلك المحذور هو أنّه يلزم منه خلاف الإجماع ، وإلّا لو كان هذا هو المراد لقالوا : إنّه باطل لأنّه خلاف الإجماع ، كما نجدهم يقولون ذلك في إبطال بعض المدّعيات.
ومن هنا قد يقال : إنّ الذي يظهر بعد ملاحظة قرائن ذلك وسوابقه ولواحقه وموارد تطبيقاته أنّ المقصود لهؤلاء الفقهاء من هذه العبارة حينما تستعمل في موارد مخصوصة هو التعبير عن حقيقة ثابتة في الرتبة السابقة ، وتلك الحقيقة هي أنّ هناك جملة من المسلّمات والأُطر الفقهية التي تلقيت بالقبول من قبل الفقهاء الأوائل ، وأُخذت بطريق لا نعرفه دون أن يكون عليها دليل صناعي يبرهن عليها إلّا أنّها حقائق لنا القناعة بأنها أُخذت من يد الشارع الأقدس ، ولهذا تكون هذه المسلَّمات بالنسبة إلينا جزءاً ضرورياً في الفقه ولا بدّ من الالتزام بها ، وكلّ بناء استدلالي في الفقه لا بدّ من أن يتحفّظ على هذه المسلّمات وإلّا لما كان بناءً استدلالياً كاملاً وصحيحاً.
وتأسيساً على ذلك حصلت حالة وجدانية قبلية عند الفقهاء أوجبت التفكير في أن يقام صرح علم الأصول وإطاره الاستدلالي بنحو تحفظ فيه هذه المسلمات الفقهية ولا يتجاوز عنها ، وبتعبير آخر لا بدّ من أن تكون عملية الاستنباط سواء على مستوى العناصر المشتركة أو المختصّة مقيّدة بحدود هذه المسلّمات والأُطر ، ولا يمكن أن ندخل العملية الاستنباطية متجاوزين هذه