الحالة النفسية التي كانت تمنع الفقيه عن أن يسقط تلك المسلّمات وإن سقط دليلها العلمي في الأبحاث الأصولية. فلم يكن المانع عن رفض تلك المسلّمات الفقهية هو وجود دليل علمي عليها ، بل كان المانع هي تلك الحالة الوجدانية والقناعة النفسية بالمحافظة على تلك الأطر الموروثة في الفقه المتعارف. ومن هنا نجد أنّ المحقّقين المتأخّرين عن الشيخ الأنصاري بدأوا محاولة جديدة لتأسيس قواعد أصولية تعوّض عمّا هدموه ؛ لأنّه لا يمكن الالتزام بتلك المسلّمات من دون وجود دليل عليها ، وهنا خطر على بال المحقّقين المتأخّرين أنّ السيرة العقلائية يمكن أن تكون تعويضاً مناسباً عمّا هُدم بمعول الصناعة العلمية من تلك القواعد ، ولذلك نرى أنّ السيرة العقلائية كان لها دور كبير وواسع في كتب المتأخّرين وخصوصاً السيّد الخوئي ، وأصبحت السيرة هي الدليل على إثبات كثير من تلك المسلّمات ، وهذا ما يفسّر لنا رواج السيرة العقلائية في كتب المتأخّرين بخلافه في كلمات السابقين حيث لم تلق هذا الرواج ، وهذا يرجع إلى معالجة تلك الحالة النفسية التي أُشير إليها.
والحاصل أنّ تلك الحالة النفسية هي التي كانت تمنع الفقيه عن هدم تلك المسلّمات ، ولكن الذوق الاستدلالي للفقيه كان يمنعه أن يقول : إنّ تلك الحالة هي الدليل فحاول أن يؤسّس أدلّة علمية لإثبات تلك المدّعيات» (١).
ومن هنا احتل بحث السيرة العقلائية موقعاً مهمّاً وأصبح أحد الدعائم الأساسية ، التي يتشكّل منها ملامح العصر الثالث من عصور علم الأصول ، بل بلغ أوجه على يد الشهيد الصدر.
__________________
(١) ما قرّرناه عن الأستاذ الشهيد في مجلس الدرس.