فإذن ، العلماء معادن الحكمة وتراجمة الأوحاء (١) وأسفاط الفضيلة ومستودع الأنباء ، احتجّ الله بهم على العباد في دار الدنيا ويوم التناد. فقاموا بما استحفظوا ـ كثّر الله أمثالهم ـ خير القيام ، وقعدوا في تدوينه ـ شكر الله سعيهم ـ عن طيب المأكل والمنام ، وصبروا في نشره على الأذى والآلام ، وحسروا عن ذراع الهمّة لتمكين الخلائق في الحلال والحرام ، فتناولوه يدا عن يد ، وتداولوه واحدا بعد أحد.
فلم يزل ذلك دأبهم من قديم الزمان وديدنهم في كلّ وقت وآن ، حتّى انتهى الفضل إلى خاتمة المجتهدين ، وانحصر العلم في رأس الملّة والدين ، مرجع العلماء المحقّقين ، وفخر الفقهاء المتبحّرين ، معقل الأنام وكهف المسلمين والإسلام ، الكاشف بسنا أنواره غياهب الظلام عن وجوه الأحكام ، طود التقى ، بحر النهى ، ملاذ الورى ، علم الهدى ، مرتضى المصطفى ، مصطفى المرتضى ، مولى العصابة وعبد الباري ، المهاجر إلى الحقّ مرتضى الأنصاري ، أجزل الله في الدارين مثوبته ، ورفع في العلّيين [ درجته ](٢).
فارتقى في العلم مرتقى لم يسبقه الأوّلون ، واحتوى في الفضل رتبة ما أدركه الآخرون ، وفاز بمقام يغبطه العالمون ، فشخصت إليه الأبصار ، ورنت لديه الأنظار ، ومدّت نحوه الأعناق ، وألمت عنده الآفاق ، وانيخت بفنائه الركاب ، وأحدقوا به من كلّ باب ، روما للاغتراف من لجج بحاره ، وميلا للالتقاط من درر نثاره ، وطمعا في الاستنارة بتألّق أنواره ، وحرصا على اقتناء (٣) آثاره ، فامتلى كلّ إناء قدر ما وعاه ، وحكى كلّ زجاجة ما حاذاه ، ربّيون كثير ما وهنوا عن تناوش جداه.
__________________
(١) كذا ، فإنّ جمع « وحي » ، هو « وحيّ » بكسر الحاء وتشديد الياء ، لا « أوحاء » كما جاء في الخطبة.
(٢) الزيادة اقتضاها السياق.
(٣) في « ط » بدل « اقتناء » : « الثناء » ، والمناسب ما أثبتناه.