اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، بل يقارنه وإن كان زمان وقوع الفعل متأخّرا عن زمان وقوع المقدّمة. هذا غاية توضيح ما أفاده رحمهالله. ولكنّه ليس في محلّه.
وتحقيق ذلك موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب عقليّ تابع للوجوب المتعلّق بذيها ، بمعنى أنّه بعد ما أدرك العقل تعلّق الطلب بشيء يتوقّف ذلك الشيء على امور عديدة يحكم بتعلّق ذلك الطلب في مرتبة من المراتب وطور من الأطوار على تلك الامور ، ولا يختلف ذلك باختلاف كواشف الطلب من اللفظ وما يصلح لأن يكون كاشفا عنه ، فالوجوب المنتزع من المقدّمة بواسطة مطلوبيّتها المتفرّعة على مطلوبيّة ذيها ، ويتبع نفس الطلب المتعلّق بذيها وواقعه وإن كان التعبير في ذلك أيضا مختلفا ما لم يؤدّ إلى اختلاف معنى الطلب ولبّه. فلو فرضنا أنّ الأمر المنقدح في نفس الطالب ممّا لا يختلف باختلاف ما يكشف عنه من الألفاظ ، فلا يعقل اختلاف الطلب المتعلّق بالمقدّمة ، إذ المدار في وجوبها وإيجاد وجوبه هو وجوب ذيها المفروض عدم اختلافه في نفس الأمر باختلاف التعبير. ولعلّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.
وإذا قد عرفت هذا ، فنقول : الذي يظهر لنا بعد التأمّل في موارد استعمال العبارتين اللتين أوردهما المجيب في بيان الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب ، هو : أنّ الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه على الوجهين ، وإنّما الاختلاف راجع في الحقيقة إلى التعبير وإن استلزم ذلك اختلاف ملاحظات المعنى المعبّر عنه بهذه التعبيرات.
وذلك يظهر عند ملاحظة اختلاف وجوه التراكيب اللغويّة والنحويّة ، فإنّ الموجود في الواقع هو أمر واحد ، لكنّه تختلف عباراته بوجوه مختلفة ، كما يرى ذلك فيما هو ثابت لشيء ، كالركوب لزيد ، فإنّه قد يلاحظ خبرا عنه محمولا عليه ، وقد يلاحظ صفة له ونعتا منه ، وقد يعتبر حالا عنه ، مع أنّ الواقع في جميع هذه الصور هو ثبوت الركوب وحصوله لزيد.