ولئن رأينا من القرآن الكريم في المثالين المقتطعين منه حرصاً واضحاً على تأكيد هذه الحقائق ، فإن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو الحارس الأمين على هذا الكتاب المجيد ما كان هو الآخر ليترك هذا الأمر دون تأكيد ومثابرة على نشره والبوح به ، رغم ما يكتنف ذلك من صعوبات جمة ، ولكنه بأبي وأمي ما كان ليبالي بما تفكّر به الناس وبما ترغب ، فلقد أبلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وله في هذا المجال أحاديث كثيرة جداً انتشرت في مساحات واسعة جداً في كتب العامة فضلاً عن الخاصة ، رغم كل ظروف القمع والارهاب الفكري والطائفي الذي تعرض له الرواة والكتاب والمحدّثين بمثل هذه الأحاديث ، ورغم كل سياسات التجهيل التي اعتمدت كثابت سياسي واستراتيجي للحكومات والأنظمة التي تعاقبت وتوالت على حكم هذه الأمة لأكثر من أبف سنة ، وهذه الأحاديث لا تبقي لملحتجّ الأريب حجة ، ولا للمعتلّ الحريص علّة ، ولله درّ الصاحب بن عباد حين قال وهو يصف حالة مناقب أمير المؤمنين عليهالسلام : ما أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً ، فظهر ما بين هذين فضائل طبقت الشرق والغرب.
وما أصدق كلام ابن أبي الحديد المعتزلي وهو يصوّر هذه الحالة : ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ، ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها واجتهدوا بكل حيلة في اطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعّدو مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة ، او يرفع له ذكراً ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّاً ؛ وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه ، (١) وكلما كتم تضوّع نشره ، وكالشمس
____________________
(١) العرف (بالتحريك) : الطيب.