ومن هنا فإننا نستطيع أن نفهم بصورة أفضل لم قدم بين يدي خطبتيه في حجة الوداع في عرفات وفي مفترق الحجيج في غدير خم التأكيد تلو التأكيد حول قيامة بالتبليغ حينما كان يناديهم : ألا هل بلغت؟ ثم أعقب ذلك كله بالمديث عن أنه يوشك أن يدعى فيجيب ، وفي هذه اللحظة حيث يفترض أن تزدحم العقول بالأفكار الكثيرة المتسائلة عن المصير في مرحلة ما بعد الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإذ يفترض أن تجيش القلوب بالعواطف المكتنزة بالأحاسيس المتوجسة مما يمكن للمستقبل أن يحمله من طارىء في غياب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبالقلق بما يحبل به الدهر لمجموعة قاتلت كل القوى الكبرى في منطقتها وأوترت قلوبها بالهزائم الشنيعة ، فما كان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالنسبة لصحابته ـ أو هكذا ينبغي أن يكون ـ بالمرء الذييسهل فراقه ، ويهون الخطب في رحيله عنهم ، ولأنه رسول هداية ، ولأنه الحجة الإلهية الكاملة لم يك ليتركهم حيارى لتنتهبهم هواجس القلق وأحاسيس الفراغ القيادي والرسالي ، كيف؟ وهو الذي وصفته رسالة السماء بأنه رحمة للعالمين ، وأي رحمة يحتاجها الإنسان؟ بقدر أن يقال له وهو في مفترق طرق حاسم بين الضلال والهدى : هو ذا طريق الهدى؟!
ولهذا جاءت كلماته المنسابة من ذلك القلب الرحيم الرؤوف لتحسم جدل النفوس ولتنهي تزاحم الأفكار والآراء ، ولتضع أمامهم الحل الذي ارتضاه لهم ربهم ، فبدر لهم في عرفات ليقول لهم ما رواه جابر بن عبد الله وأبو ذر الغفاري وأبو سعيد الخدري وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد : يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي
____________________
= المصابيح ٣٠٩ : ١٠ ـ ٣١٤ ح ٥٩٦٦ ، والشهرستاني في الملل والنحل ٢٢ : ١ ، وابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية ٢٥١ : ٥ ، وابن تيمية في منهاج السنة النبوية ٥٧٢ : ٨ ، والشريف الجرجاني في شرح المواقف ٣٧٦ : ٦ ، وابن الأثير في جامع الأصول ٦٩ : ١١ ـ ٧١ ح ٨٥٣٣.