وسرى إليه الآن؟ مع العلم أن دواعي الخوف في تلك أقوى من دواعيه هنا ، وأي عاقل يقبل أن يتهم الجماد في ما لا يقدر على فعله؟ إذن لا بد من التفتيش عن الموقف الحقيقي بعيداً عن ظاهر الكلام.
وفي هذا المجال سنجد أن القصة تبتدأ بتوعد إبراهيم عليهالسلام بالكيد من أصنامهم ، والكيد ـ وهو معالجة الشيء مع اجتهاد للوصول إلى غاية ما ، وعادة ما تخفى هذه الغاية وراء الستار المباشر للمعالجة ـ لدى العقلاء هو الذي يتوصل به الكائد إلى غايته كاملة ، ومن المعلوم أن تحطم الأصنام ليس فيه من الكيد الشيء الكثير ، بل هو إلى العمل الميكانيكي البسيط أقرب منه إلى أي شيء آخر ، ولهذا لا يمكن أن يسمى كيداً ، كما أن تحيطم الأصنام لا يحل القضية التي يسعى وراءها إبراهيم عليهالسلام ، وهي تسفيه عبادتها ، والاعراب عن جهل المتعبدين لها ، فبالامكان دوماً الاتيان بغيرها وتصنيعها ، وعليه فإن الجواب الذي أجاب به إبراهيم عليهالسلام ما هو في الواقع إلاّ عملية توريط لعقولهم التي ستحار في جوابها ، فإن قالت بأن الأصنام هي جمادات لا تملك من الأمر شيء بان زيف عبادتها وضحالة اعتقادهم بها ، وهو ما يريده النبي إبراهيم عليهالسلام بالضبط ، وإن سكتت عن عملية تحيطم الأصنام تكون قد أقرت بالعجز أمام تسفيه إبراهيم عليهالسلام لهم ولمعتقداتهم ، ولهذا كان رد الفعل التلقائي وقوعهم في الحيرة التي جرتهم إلى أن يعترفوا أثناء مراجعة النفوس وتفكرها في جواب إبراهيم عليهالسلام وفقاً لما ذكر القرآن الكريم : (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ) وقد كان منتظراً للجواب فراح يبلغ بكيده الهدف الذي خطط له سلفاً : (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) ولهذا كانت ردة فعلهم المباشرة منصبة على نصر الآلهة التي وجدوها قد خضعت لمنطق المكيدة الإبراهيمية بشكل كامل ، فأبرزوا واقع ضعفهم وعجزهم عن مجاراتها من خلال استخدامهم لمنطق القوة المادية : (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا