وأمّا على الثاني : فلتعرّضه لنفيه في الواقع.
فإنّا نقول : إنّ مفاد الآية نفي استحقاق العذاب باعتبار كون الجهل عذرا مانعا عن تعلّق الحكم الواقعي على تقدير ثبوته بالمكلّف الجاهل ما دام جاهلا ، لا باعتبار انتفاء أصل الحكم الشرعي بحسب الواقع.
وبعبارة اخرى : أنّ الآية بظاهرها تدلّ على نفي اللازم باعتبار انتفاء شرط تعلّق الملزوم ، لا نفيه باعتبار انتفاء الملزوم رأسا.
وبعبارة ثالثة : أنّها ظاهرة في نفي استحقاق العذاب لوجود المانع وهو الجهل ، لا لفقد المقتضي وهو الحكم الشرعي الواقعي الموجود في الواقعة من وجوب أو تحريم ، بدليل اختصاص النفي بما قبل البعث والتبليغ والبيان.
ولا ريب أنّ الأحكام الواقعيّة لا تتغيّر بالبيان وعدمه ، ولا بعلم المكلّف وجهله لبطلان التصويب.
وأمّا ما عساه يقال من أنّ الآية بقرينة « كنّا » إخبار بمجرى عادته تعالى في الامم السالفة ، من أنّه تعالى ما كان يعذّبهم إلاّ بعد بعث الرسل إليهم وإتمام الحجج عليهم ، فظاهر التعذيب المنفيّ عنهم تعذيبهم بالعذاب الدنيوي من المسخ والخسف ونحو ذلك ، وهذا لا ينافي استحقاق العذاب الاخروي في هذه الامّة على مخالفة الأحكام الواقعيّة لأجل الجهالة بعد بعث الرسل.
وبالجملة فالآية على هذا المعنى ممّا لا تعلّق له بما نحن فيه.
فيدفعه أوّلا : منع ظهورها في الإخبار عمّا كان عليه تعالى في الامم السالفة بل هو إخبار عمّا هو عليه في دار الآخرة بقرينة الآيات السابقة عليها ، حيث قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً )(١)( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )(٢)( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٣).
وثانيا : منع ظهور « كنّا » في المضيّ ، بل هو يجري مجرى الماضي المأخوذ في التعريفات فيكون منسلخا عن الزمان ، على حدّ قوله تعالى : ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ )(٤) و ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ )(٥) وغير ذلك ممّا لا يحصى في الكتاب كثرة. وفائدة
__________________
(١) الإسراء : ١٣. (٢) الإسراء : ١٤. (٣) الإسراء : ١٥.
(٤) فصّلت : ٤٦. (٥) الأحزاب : ٤٠.