لكن لنا في النسبة نظرا ، لأنّ الّذي يظهر من كلامه المنقول اختياره التفصيل المذكور في أصل آخر يعبّر عنه بأنّ عدم الدليل على حكم دليل على عدم ذلك الحكم ، الّذي جعله أحد أقسام الاستصحاب حيث قال :
« الثالث : ـ يعني من أدلّة العقل ـ الاستصحاب وأقسامه ثلاثة :
الأوّل : استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ، كما يقال : الوتر ليس واجبا لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ومنه أن يختلف العلماء في حكم الدية بين الأقلّ والأكثر كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع ـ إلى أن قال ـ :
الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه ، وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان على هذا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر.
الثالث : استصحاب حال الشرع ، فاختار أنّه ليس بحجّة (١) بل إطلاقه القول باستصحاب حال العقل بمعنى التمسّك بالبراءة الأصليّة مع تقييد القسم الثاني بما عرفت يعطي إطلاق قوله بالبراءة الأصليّة.
وكيف كان فنحن نتكلّم على هذا التفصيل ونقول : إنّه إنّما يستقيم إذا كان النظر في أصل البراءة إلى الواقع ، ليصحّ نفيه فيما يعمّ به البلوى بعدم وجود الدليل عليه ، لقضاء العادة بأنّه لو كان لظفرنا به ، فعدمه يدلّ على انتفاء الحكم الواقعي من وجوب أو حرمة.
ويدفعه : ما بيّنّاه مرارا من أنّ أصل البراءة بموضوعه ناطق بأن لا تعرّض فيه للواقع بإثبات ولا نفي ، بل هو متكفّل لبيان حال ذمّة المكلّف من حيث خلوّه عن التكليف الإلزامي ، وعدم العقاب على ارتكابه المشتبه مع إمكان خلوّ الواقعة من حيث هي عن الحكم الإلزامي ، على معنى عدم كون حكمها المجعول هو الوجوب أو الحرمة ، أو كون حكمها أحدهما مع عدم ورود دليل لبيانه لمصلحة ، أو مع وروده ولكن لم يبلغ إلينا ، أو بلغ مع اشتباه دلالته ، أو اتّضح دلالته مع اشتغاله بمعارضة مثله ، وهذا لا يتفاوت فيه الحال بين عموم البلوى بالواقعة وعدمه لعموم أدلّته.
وقضيّة ذلك العموم عدم الفرق أيضا في العمل به بين الأعيان من مشروب أو مأكول أو مطعوم حتّى اللحوم ، فلو شكّ في حرمة لحم حيوان وحلّيّته بعد إحراز طهارته ـ ولو بحكم الأصل ـ وقابليّته للتذكية كلحم الحمير مثلا ، يعمل فيه بالأصل المقتضي للحلّيّة ولو
__________________
(١) المعتبر ١ : ٣٢.