وأمّا الثالث (١) : فلما قرّرناه في تضاعيف المسألة المشار إليها عند الكلام على أدلّة الحاظرين وفي تضاعيف بيان الدليل العقلي على أصل البراءة في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة من منع إعمال قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فيما نحن فيه بما لا مزيد عليه ، ولا نطيل الكلام بإعادته هنا.
وملخّص ما قدّمناه في الموضعين إمّا منع احتمال الضرر أو منع وجوب دفعه. ولو بقى هاهنا تتمّة فلعلّنا نتعرّض لها عند الكلام في الشبهة التحريميّة في الموضوع.
فتقرّر بجميع ما سمعت أنّ الأصل فيما لا نصّ فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة هو البراءة ، على معنى عدم وجوب الاجتناب عن المشتبه من جهة الاحتياط وغيره ، ولو عبّر في مكانها بالإباحة فلا بدّ أن يراد بها مجرّد عدم الحرج في فعل المشتبه.
وأمّا الإباحة بمعنى التسوية بين الفعل والترك حسبما أنشأها المنشئ فلا بدّ في الالتزام بها من دليل آخر غير ما تقدّم من أدلّة الأصل ، لأنّها لا تفيد أزيد من البراءة بمعنى خلوّ ذمّة الجاهل عن الإلزام بالترك. وعدم ترتّب العقاب على الفعل ، حتّى قوله عليهالسلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٢) فإنّ أقصاه الإطلاق بمعنى خلوّه عن قيد التكليف.
ثمّ الظاهر أنّه لا فرق فيه في الواقعة المشكوكة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، كما هو المشهور بين المجتهدين وعليه المحقّق أيضا في المعارج ، على ما هو ظاهر إطلاق عبارته المحكيّة : من « أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، وإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، وهذا الدليل لا يتمّ إلاّ ببيان مقدّمتين :
إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه.
والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة منحصرة فيها ، لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلا [ على ] نفي الحكم » انتهى (٣).
خلافا له في المعتبر فخصّ العمل بالأصل بما يعمّ به البلوى على ما اشتهر نسبته إليه ،
__________________
(١) وفي الأصل : « الثاني » بدل « الثالث » وهو سهو منه رحمهالله والصواب ما أثبتناه في المتن.
(٢) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.
(٣) المعارج ٢١٢ ـ ٢١٣.