وإتقان الزراعة. ولربما كانت تربة أرضنا أجود وطقس عدوتنا ألطف ، حيث رأيت مزارع القمح هنالك أضعف سوقا وأقصر قامة والسنبل أقل حجما. فالشكر إنما يوجه للرجال على هاته الأعمال لا إلى تراب السهول والجبال.
بلغني أنهم يجلبون لأراضيهم تراب الفسفاط يمزجونها به فتجود الأرض وتتجدد قواها. وقد عرف الأروباويون مزية تراب هذا الإكسير على الفلاحة ، فاستثمروا خصيصته ونالوا أرباحه. كنت رأيت بشركة فسفاط المتلوي بجنوب المملكة التونسية نحو أربعة آلاف عامل باليد ، عدا النظار والمكلفين والمهندسين ، وتفوق الحساب القوات البخارية والكهربائية لاستخراج تراب الفسفاط من غيران وكهوف في أعماق الجبال الشاهقة على أنوار الكهرباء ، ويجر بعربات البخار إلى معامل التجفيف الأول بالشمس والفلح ، ويطحن ويغربل بعد ذلك بأمتن الآلات وأسرعها. ثم يجفف بنار الفحم الحجري وتسير به القطارات إلى الشواطئ ليحمل إلى ما وراء البحار وليدر على أراضي أرباب العلم بالمنافع والأعمال الزراعية المحكمة. فيرى الإنسان في معامل استخراج الفسفاط الكيمياء بمعنى الكلمة التي يصير بها التراب تبرا من الأرباح الباهظة في أثمانه. ومتى رأى تأثيرات ذلك التراب على الأراضي التي يمزج بها ، وخصبها بعد الجذب وحياتها واخضرارها بعد الموت والعراء ، يعلم قيمة أسرار الكائنات في هاته الأرض التي خلقنا منها وخلق لنا أيضا ما فيها جميعا ، وأن ما بها فيه كفاية ورزق واسع لمن تدبر واجتهد في الوصول إلى الأسرار والمنافع. والأرض كالبشر فمن تشبع بماء العلم والتهذيب وأد من العمل واكتسب المعارف والآداب أنتجت أفكاره ومواهبه ما يسوس به نفسه وينفع جنسه. وإذا قابلت بينه وبين من يبقى على أصل الفطرة الحيوانية شبه السائمة ، تحسب الفرق من أصل الخلقة أو التفاوت في الاستعداد. والأمر على خلاف ذلك وما هو إلّا العلم والعمل وربما خفي هذا الأمر على بسطاء العقول في توهم الفرق بين الحضري والبدوي. ورجع بنسبة ذلك إلى اصل الفطرة مثل ما خامر بعض الأفكار من أن بين الشرقي والغربي تفاوتا في العقل ، وكل ذلك بعيد عن الصواب وبمعزل عن الحقيقة ، إذ قد تجد في النفوس الغير الممرنة والعقول الغير المدربة كمالا ومتانة واستعدادا تفوق بها غيرها. وتتجلى حقيقة الأمر إذا أرسلت من كلا الجنسين في رهان التعليم والتثقيف على السواء