فاستوطن بهذا القصر إلى الأبد ، وكان محبا للعساكر ومحبوبا عندهم ومتواضعا معهم ، فكأنه أحب أن لا يفارق منازلهم بعد وفاته ، وأن يشاركهم في الأسى الذي خيم على أهالي ذلك القصر ، فهم يصبحون ويمسون ذاكرين لعظيم الهمة ورجل الدهر في عصره نابليون الأول ، فيصغّر ذكره في أعينهم حالة الدنيا ، كما يسلي ويخفف من ويلات أولئك الأبطال مثل أمر ذلك الفاتح الكبير الذي مزق أشلاء ممالك الأرض وداس أعز مواقعها بقدميه ، وأخيرا قنع بمعيشة نكدة في جزيرة سانت هيلانة.
والنفس راغبة إذا رغبتها |
|
وإذا ترد إلى قليل تقنع |
وآواه عرض شبر من التراب في قصر ليزانفليد الشامخ المتطاول بين قصور العالم ، بعد أن كانت القارات على اتساعها وابتعادها تضيق عن الأشعة المنبعثة من كهرباء أماليه. قال عبيد الله المهدي الخليفة بالقيروان ، وقد أوتي إليه برؤوس قواده في قفة لأمر بدا له فيهم بعد أن وطأوا له أركان الخلافة ومكنوه من أطراف شمال إفريقيا ومهدوا له سبلها «ويقولون المخزن والزمان ليس لهما أمان» ما أعجب أمور الدنيا ، هاته الرؤوس ضاق بها المشرق والمغرب وحملتها هذه القفة!!. يفكر الإنسان في عظماء رجال العالم عند ما يقف على قبر نابليون ويطول سكوته هناك وتهدأ أعضاؤه ريثما طائر الخيال يجوب جو العالم أجمع ويحلق أحيانا ويرفرف على تراجم بعض رجال الدنيا ومحاربة الدهر لهم ، مثلما يحلق ويرفرف صاحب الطيارة على بعض البلدان لاكتشاف أحوالها أو ليبيض في جوها. وأول ما يعترض الخيال أمر موسى بن نصير الرجل العظيم وما امتحنه به سليمان بن عبد الملك في آخر عمره في ذريته وبدنه وماله. ثم ما امتحن به ابن عباد نادرة الزمان وما كان يحق لمثله أن يهان ، إلا أن يوسف بن تاشفين ، وإن كان على جانب من الدين ، غير أنه رجل حرب لا رجل سياسة. لذلك ارتكب يوسف بن تاشفين في قبول الوشاية من المعتصم صاحب المرية محمد بن صمادح في مزاحمه ومعاصره المعتمد ابن عباد صاحب إشبيلية ، ذنبا جسيما غطى جليل أعماله. ولكن ما أكبر مروءة ابن عباد في عدم التنازل إلى الوشاية ضد عدوه الساقط المعتصم ، وما أعلى همته في اختياره بلاد رعي الإبل