وسكانها يذوقون آلام العطش ووخيم الماء الراكد ومرارة طعمه وأمراضه ويتجشمون غلاء الأسعار وانتظار الأمطار ، وهو نقص في التدبير من عهد التأسيس وعجز من القاطنين على ذلك الخسف. وأعمال الرجال العظام في سائر الأمم من قديم متجهة إلى جلب المياه التي جعل الله منها كل شيء حي ، فأدريانوس الروماني الذي زار مستعمرة إفريقيا في القرن ٢ كانت من أعماله الخالدة بها جلب ماء زغوان إلى قرطاجنة على الحنايا الماثلة إلى اليوم من أمتن المصانع وأعظم الهياكل. ولا أدري كيف كانت حياة الفنيقيين قبل ذلك من عهد تأسيس تلك المدينة الجميلة المنظر والغريبة الموقع الذي حمل الرومانيين على امتلاكها وأن لا يحيدوا عن سكناها لما لم يجدوا أحسن منها حصنا وحسنا؟ ولأهمية هاته المبرة من هذا السلطان المصلح وعظيم نفعها وشهرة سمعته بها ، أن كان الرمز العظيم الذي يعبر به عن الرومان في إفريقيا تلك البناية الكبرى حتى صورتها إدارة البوسطة بتونس على تنابر الرسائل رمزا عن دور تلك الأمة التي أخذت حظها من هاته المملكة واعتبرتها ذخرا وخزينة مواد حياتها. وكان رمز الدولة التي قبلها وهي الفنيقية صورة سفينة ذات قلاع مربع مستطيل ومرتفعة المؤخر ، لأن هاته الأمة عرفت بالمهارة في البحر والفروسية على صهوته الصعبة وبما خبرته من طرق البحار. وملكته من نواصي الأقطار. واكتسبته من ثمرة الاتجار. أمكن لها أن تؤسس مدينة قرطاجنة بشمال إفريقيا المخضر أديمي الأرض والسماء بالخصب والصفاء. وكان الرمز لدور العرب هو صومعة جامع القيروان التي هي من آثار زيادة الله بن الأغلب ٢٠١ ـ ٢٢٣. ولقد أصاب صاحب تقسيم هاته الأدوار والمصور لهاته الرموز ، فإن أمة العرب كانت تعتني ملوكها بتخليد الذكر في البناءات العظيمة الفائدة والمتينة الهندسة. وزيادة الله لما افتخر بأربع وقال لا أبالي بما ذا فعلت بعدها كانت ثلاثتها في البناء والرابعة في العدل ، وهو من آثار العلم.
وتلك الأربعة هي جامع عقبة وقنطرة باب أبي الربيع قبلي القيروان ، ولم يبق لها الآن من أثر ، وحصن سوسة ، وولايته ابن محرز قاضيا بالقيروان لعلمه ونزاهته. والقضاة الذين لهم هاته الحلية الجميلة ممن تفتخر بهم الملوك ، بل الأمة ، بل الإسلام. وقد ذكرنا في صدر الكتاب فخر تونس بقاضيها النزيه المقتدر فضيلة النحرير الشيخ الطاهر ابن عاشور ، ومنذر بن سعيد قاضي قرطبة ومقامه عند الملك الناصر. أما مصر فإن