العلوم عندهم دائما في رقي مستمر ودقائق أخبار الأمم هي سمرهم ، وتقلبات الدهر وتصرفات الليالي هي أحاديث أنديتهم ومجتمعاتهم. وأرسم هنا شيئا مما دار بيني وبين سكان فرانسا في هاته الرحلة : كانوا يباحثونني ويستطلعون مني عوائد مملكتي وأخلاقها ومعارفها كما يسألون عن أبناء جنسهم في المملكة التونسية ، وما هي معاملاتهم مع الأهالي ، وهل هم على وفاق مع أبناء الوطن التونسي. ومتى سمعوا التوادد مع رجال الحكومة وطيب المعاشرة تبرق أسارير وجوههم سرورا بأبناء جنسهم الذين بيضوا وجوه رجال مملكتهم في حالة اغترابهم وجلبوا الثناء الجميل لدولتهم التي تحميهم من وراء البحار ، وتنتظر محاسن أعمالهم على بعد الدار. وكثيرا ما سئلت عن السبب الذي ترك المملكة التونسية على اتساعها قليلة عدد السكان بالنسبة إلى غيرها لما أن مساحتها ٠٠٠ ، ٧٢١ كيلوميتر مربعا وسكانها ٠٠٠ ، ٠٠٨ ، ١.
فالكيلوميترو مربعا به نحو عشرة ١٠ فقط وهذا قليل جدا بالنسبة لما بيناه من سكان الممالك ، ومساحاتها عند الكلام على مجلس الأمة بباريز بصحيفة ١٥٠ «وقد وقع تحريف مطبعي في تلك الإحصائية تداركناه في جدول الإصلاح» (١٣٥). فكان جوابي لهم بأن عمران المملكة أخذ في التلاشي وانحط عدد النفوس إلى درجة مخطرة في القرون الخيرة ، أعني بعد الألف لأسباب كثيرة ، زيادة على النكبات التي أصابته في خلال القرون الأولى أي إلى القرن الخامس ، ثم في أثناء القرون الوسطى أي إلى الألف ، ومن تلك الأسباب : ١ ـ الحروب المستمرة بين القبائل. ٢ ـ ومنها عدم الأمن على النفس والمال. ٣ ـ ومنها الجهل بحفظ الصحة والعجز عن مقاومة الأمراض الوبائية. ٤ ـ ومنها فقد المعاش في سني الجذب. أما الآن فقد انخفضت شوكة القبائل بالمملكة سواء كانوا من البربر أو العرب ، وكلا الجنسين لعب دورا مهما في إفريقيا وأخذ حظا وافرا في التخريب والحروب المبيدة. فالكاهنة دهيا البربرية في النصف الثاني من القرن الأول خربت المداين والقصور ، وأفسدت الأشجار تنفيرا للعرب الفاتحين من الإقامة ، فتركت المملكة بلقعا تئن من ويلات الفقر حيث أبادت مساكن أصحاب المدر والصنائع الذين لا تكون العمارة إلّا بهم ، وذهبت بمتمعش
__________________
(١٣٥) أثبتنا التصحيح المذكور.