النعمة والتهاون بهم إلى الانتقام منه ، فجاءت الضربة قاضية والمصيبة عامة لما أفاضوا عليه سيل العرم والجراد المنتشر من هاتيك القبائل السفاكة فكان ما كان ، وقد ألمعنا في المقدمة إلى هذا الحادث الجلل.
أما رجال الفتح وسراة الأمة العربية فليس هذا سبيلهم ولا من شيمهم ، ومع أنهم أباة ضيم فهم لا يتنازلون إلى الظلم الذي تنهاهم عنه شريعتهم وشرفهم ، وهم متى غلبوا أمنوا من تحتهم وعمروا الممالك. وفي إفريقية قاموا مقام الرومان في هذا المعنى وإن شئت امتزجوا بهم وبالبربر عند الفتح مثلما امتزجوا ببقية الأمم الأصلية في الممالك الراقية التي أبيح لهم فتحها وانتفعوا منهم في أخذ علوم الدنيا مثلما انتفع السكان الأصليون بحلاوة العدل منهم والتطهر من أدران الضلالات وبنشر حرية العمل والاعتقاد. عدا ما يزاحم سيادة الدولة أو يناكد دينها ، فإن الأمة الحاكمة لا تتهاون بها.
والعرب بإفريقيا وغيرها أوسع عارضة وأمتن رأيا في الإدارة وبالسياسة. والبربر أدمن عملا وأرضى بالقليل وأشغل للمهن البسيطة ، وهم أكثر تلقيا لعوائد الرومان من غيرهم ومتابعة لهم في مذموم الخصال ومحمودها لطول المساكنة وقوة الامتزاج والمعاشرة. غير أن الإسلام طهرهم كثيرا. كما أن قبائل هلال وغيرهم بطول الإقامة في إفريقيا ذات الهواء اللطيف والعيش المريء نقصت حدتهم. وبفضل امتزاجهم بالعناصر التي بها حسنت معاملتهم ، ولا زالت ذريتهم من بعدهم بإفريقيا محافظة على أنسابها وشيء من عاداتها ، وامتاز العرب بالوفاء بالعهد عن شرف ، ومقابلة الجميل بالجميل عن إخلاص. وصار هذا خلقا لعموم سكان المملكة التونسية التي أكثرها عرب من جيل القرن الخامس. أما عرب الفتح الأول وهم أمراء وقواد وأجناد فقد أبادتهم الحروب وابتلعتهم الأقطار الشاسعة ، ومثلهم ذريتهم من بعدهم في طلب العلى. وهي سنة في عائلات وشيعة الملك المنقرض ، حيث لا يبقى عليهم من يخلفهم من بعدهم. وهو سوء في السياسة وخرق في الرأي. وادعاء النسب وزعم الالتحاق بمثل عائلات الملك والشرف شنشنة معروفة من المتشبثين بأذيال السمعة ، فيركبون لها متن التدليس والتلبيس وتخادعهم أنفسهم بما تمليه عليهم من الأوهام ، إلى بناء القصور على الأماني والأحلام ، عجزا منها عن طريقة عصام ، وهم لا تخلو