أخطار الأسفار ، ولو إلى ما وراء البحار. علما بأنها هبطت من المحل الأرفع ، إلى هذا الفضاء الأوسع. وتلقت بالجسد الغير المجانس لها على كره منها لتنال العلوم بواسطته ولتستفيد بالتلبس به وتعود عالمة بما لم تعلم. فهبوطها لا شك ضربة لازب لتكون سامعة لما لم تسمع ، وتعود عالمة بكل خفية في العالمين فخرقها لم يرقع. غير أن المعلوم بواسطة المشاهدة أصح من المعلوم بواسطة السمع فقط ، والفرق يتبين من التأمل في حالة وصول المعلوم إلى الذهن بواسطة الحواس مباشرة كما في الأول وبواسطة المخبر في بعض المعلومات كما في الثاني. وآفات الأخبار كثيرة. فالاقتصار على السماع لا يفيد الثمرة المقصودة والمأمور بتحصيلها بالسير في الأرض (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها). فالحقيقة تتجلى باستعمال العاملين النافعين وهما السمع والبصر كالعلم بالشيء وتصحيحه وتطبيقه ، وكم من معلومات لا يصدق فيها الخبر الخبر ، وكم من أوهام خبرية تزيلها معلومات المشاهدة والسفر. ما دامت الاستفسارات ناقصة والقياسات في الغالب مخطئة ، فتعارف الأمم ببعضها واستطلاع الحقائق والوقوف على بواطن الأمر مما يقرب التوادد ويزيل الشحناء ويذهب بما يلصق في فكر إحدى الأمتين مما يعده ذنبا أو عيبا أو نقصا أو توحشا في جانب الأمة الأخرى. والفوائد لا تحصل والاقتباس لا يتم إلّا بالتعارف والبحث. وما اكتساب التجارب وصحة الأبدان وتهذيب النفوس ونيل المعارف إلّا بالأسفار واتساع المدارك. لذلك كله كلما خلوت ونفسي إلّا وناجتني في هذا الغرض وأفضت لي بذات صدرها وأفاضت في شرح فعلها ومصدرها ، والجسد طوع يمين النفس شأن السلطة من المدبر الحكيم والنور على الظلمة والعالم على الجاهل والدائم على الفاني والقوي على الضعيف :
لو لا حجاب أمام النفس يمنعها |
|
عن الحقيقة فيما كان في الأزل |
لأدركت كل شيء عز مطلبه |
|
حتى الحقيقة في المعلول والعلل |
وبعد مزاولتي علمي التاريخ والجغرافيا باعتناء بالمدرسة الخلدونية ازدادت حاجة