النفس إلى السفر والترقي إلى الخبر من الخبر وتقوت بسلاح معلوماتها على الجسد الضعيف. أما الانكباب على مطالعة هذين العلمين «والكتب حصون العقلاء إليها يلجئون ، وبساتينهم بها يتنزهون» ، وذلك بعد زمن التعليم على أستاذي المدرسة المذكورة : النابغة سيدي البشير صفر والبارع سيدي محمد بن الخوجة وهما بالمنزلة المعلومة في سعة الاطلاع وإصابة المرمى في التقرير وبلاغة التحرير. فقد زادني شوقا على شوق إلى مشاهدة أحوال الممالك وطبائع سكان الأرض وأخلاقهم ومعارفهم ، وموازنة حاضرهم بغابرهم وقياس درجة رقيهم وانحطاطهم بالنسبة لغيرهم. وهذا الأمر كما سيتبين بعد هذا أحد موجبات الأسفار والنزوح عن الديار. وعقدت النية على السفر إلى أروبا أمّ القارات ومعلمة الأمم ومدبرة الممالك ومالكة البحار. وجعلت مقدمة ذلك مملكة فرنسا لما يبلغنا عنها من ملاءمة أخلاق سكانها وغزارة المعارف بها ، واستبحار العمران بعواصمها وانتشار الحرية والثروة في أمتها ، سيما وهاته الدولة العظيمة والأمة النبيهة هي حامية الحمى ومدبرة القطر ومعلمة أبنائه. فيهم التونسي أن يدرس ويتعرف مملكتها وحضارتها ويسافر إلى وطنها ويستطلع عوائدها ويرى نواياها وآمالها في السير بهذه المملكة في طرق الحضارة والأمن ويشاهد منزلة سكانها الأدبية والمادية من علم ومال ، وكل ذلك مما يعود بالفائدة المتعددة في عالم الاجتماع «والإنسان مدني بالطبع». وقد سهلت لنا أروبا امتطاء البحار والانتفاع بالبخار ، والتطلع إلى العلوم والأخبار ، والميل إلى مشاهدات نتائج هذا العصر والبحث عن الآثار ، سيما والتونسي في فرانسا ، وبالأحرى في باريز ، محترم وعزيز ، وسيأتي ذكر ذلك في الحديث على أخلاق تلك الأمة النبيلة ، وعاصمتها الجميلة. ثم مملكة سويسرة لما يقال عن جمال مناظر الجبال والبحيرات بها وأمن قاصدها وراحة بال زائرها ، وإنجازا لوعد البعض ممن دعانا لمشاهدة تلك الممالك ممن عرفناه من سكان هاتين المملكتين. وإجابة دعوة الأودّاء إلى الأقطار النائية وزيارة المتعارفين عادة قديمة في البشر ، وسيأتي ذكرها من بين دواعي السفر. فشاهدت في رحلة قصيرة لم تتجاوز أيامها في تراب العدوة الشمالية من البحر الأبيض شهرا واحد ثمانية عشر مدينة بفرنسا وسويسرة. وهي (١) مرسيليا و (٢) كرونوبل و (٣) شامبري و (٤) إيكس ليبا و (٥) جنيف و (٦) فيفي و (٧) منترو و (٨) باريس و (٩) وكليرمو أنركون