فبدلا من أن يوفّر المسلمون هذه الحقوق لأهلها ، وأن يجنوا حاصلات هذه الأوقاف الدّارّة ، ويقدموها إلى محلها ، بحسب شروط واقفيها ومرصديها ، لا نجدهم عنوا في شيء من الأشياء عنايتهم في محو هذه الحبوس (١) ، التي منذ ثلاثة عشر قرنا يجود بها الآباء ، ويخيس بها الأبناء ، إنّ شرط الواقف كنص الشارع هي جملة كادت تذهب من أذهان المسلمين قاطبة ، إلا من رحم ربك.
فبعض هذه الأوقاف درست تماما بأيدي النظّار الخائنين ، وبإغضاء القضاة المواطئين ، على مشهد من العلماء المدلّسين ، وبعضها تحوّل عن أصله ، وأجري في غير مصالح الحرمين ، وخولف به شرط الواقف ، بدون عذر ولا مسوّغ شرعيّ ، وجميع هؤلاء ساكتون ، وبعضها بقي باسم الحرمين الشريفين ، ولكنّه يرفع منه إلى الحرمين من الجمل أذنه ـ كما يقال.
وياليت شعري من يفعل هذا ، أو من يقرّ على هذا ، فلا أدري كيف يصلّي! وكيف يصوم! وكيف يحجّ! وكيف يظن أنّه قام بفرائض الإسلام؟ ولا أقول : كيف يزكّي؟ فقد قلّ اليوم من يفكّر بفرض الزكاة؟ فالزكاة وتأدية حقوق الأوقاف هما من الأمور التي كادت ألا توجد إلا في الكتب الفقهية ، يتعلّمها النّاس من قبيل العلم بالشيء ، لا من أجل العمل بهذا العلم.
وإذا جرى شيء من العمل بشروط الحابسين ، فلا يكون إلا في نفس البلاد التي فيها الحبوس ، وهذا من خوف النظّار والقضاة أن تنتقض عليهم العامة ويسقطوهم ، فأما إذا أمنوا خوف ثورة العامة فالوقف إلى الدثور أسرع من الماء إلى الحدور ، وعلى كلّ حال شرط الواقف كاد يفقد كلّ حرمة.
__________________
(١) [الأقاف].