وأغرب من هذا أنّه لم يكف تلاعب النظّار بالأوقاف ـ ولا سيما بأوقاف الحرمين ـ وإغضاء القضاة والعلماء على هذه العظيمة ، حتى صارت الحكومات الإسلامية هي أنفسها تستبدّ بأوقاف الحرمين ، وتمنع إيصال ريعها إلى الحرمين ، غير مراقبة شرط واقف ، ولا نصّ شارع ، ولا رضى خالق ، ولا لسان مخلوق.
هذه هي الحكومات الإسلامية ، التي هي أجيرات المسلمين في مهامهم العامة ، وليس في أيديها شيء إلا من فضلهم ، وليست هي بأجمعها شيئا لولاهم ، وإنما كان وجودها لأجل صيانة مصالحهم الدينية والدنيوية معا ، لا مصالحهم الدنيوية فحسب.
فهذه الحكومات بلعت جانبا من هذه الأوقاف ، ومحت رسومه ، وجعلت شروط واقفيه كأمس الدابر ، وأكلت ريع الجانب الآخر ، وحولته إلى مهالك معلومة ، ليس لها تعلق بالحرمين الشريفين ، ولم تبال ما عملت ، وكانت إذا رفعت إلى الحرمين صرة دراهم ، أو شحنت سفينة حبوب ظنّت أنّها تتصدّق على أهل الحجاز من مال أبيها (١) :
وقد فشت هذه العادة الذميمة في الحكومات الإسلامية بفشو الاستخفاف بالدين ، وبحمل الواجبات الدينية على المبادىء القومية ، والحال أنّ الدين لا علاقة له بالقومية ، وكلّ منهما له حدود غير موقوفة على حدود الأخر ، ونحن نجد أنّ الفاتيكان مرجع ديني لأربعمئة مليون كاثوليكي ، وهم من أجناس لا يحصى عديدها ، ونجد أنّ خزانة البابا كخزانة دولة من الدول ، ولم يمنع كاثوليك الدنيا أن يرفعوا إليه إعاناتهم وصدقاتهم ـ كونه طليانيا ، وكون الفاتيكان في إيطالية.
__________________
(١) [انظر ما قاله المؤلف ص (٩٧)].