ما وضعوه من العواثير والعقاب في سبيل الحج باسم المحافظة على الصحة قد أنالهم بعض مرادهم منه بقلّة من يتحمّل مشقته من ملوك المسلمين ، وأمرائهم المترفين ، وأغنيائهم المحسنين ، وزعمائهم المفكرين.
وقد كانوا حاولوا أن يقرّروا في مؤتمر طبيّ عقد بمصر في أوائل عهد الاحتلال البريطاني أنّ الحجاز بيئة وبائية بطبعه ، يجب جعله تحت سلطة الحجر الدولي دائما لذاته ، فجاهد المرحوم سالم باشا سالم كبير أطباء مصر ـ والطبيب الخاصّ لسموّ الخديوي توفيق باشا وأسرته ـ ، يومئذ جهادا كبيرا دون ذلك ، حتى دحض كلّ شبهة تؤيّد هذا الاقتراح ، وأثبت بالأدلة الفنية الطبيّة والتاريخية أنّ الحجاز ليس بوطن لوباء الهيضة الوبائية (الكوليرة) ولا لغيرها من الأوبئة السارية المعدية ، ولكنني لم أضع لهذه المسألة حاشية ، بل أدعها إلى علم الأمير الواسع ، ورأيه الناضج ، لعلّه يستدرك ما يرى استدراكه ممحّصا لهذا الرأي.
وها أنا ذا أزفّ إلى قرّاء العربية هذه الرحلة النفيسة ، والارتسامات اللطيفة ، ولا ريب عندي في أنهم يقدّرونها قدرها ، ويعنون معي بنشرها ، وبثّ الدعاية إلى العمل بما فيها من النصيحة الثمينة ، التي تتوقف عليها حياة هذه الأمة المسكينة ، التي كانت هي الناشرة لدعوة الإسلام ، والمفيضة لنور هدايته ، والمفجّرة لأنهار حضارته ، وبإحيائها وعمران بلادها يناط بقاؤه ، ويعود رواؤه ، وينضر إهابه ، ويتجدّد شبابه.
وأختم هذا التصدير لها بما يؤيد قولي هذا من الأحاديث النبوية في شأن الحجاز ومستقبله ، وكونه مأرز الإسلام ومعقله ، وحصنه وموئله ، عند ما يشتدّ على المسلمين البغيّ والعدوان ، ويركبون المناكير ، فيناكرهم الزّمان ، أو تستباح بيضتهم بما أعرضوا عن هداية القرآن.