التأويل قائلا : إنّ مراد عمر بهذا التفضيل قرب هذا المكان ـ أي ركبة ـ من مكة والمدينة.
قلت : لا وجه لهذا القول ، لأنّه إن كان مراد سيدنا عمر رضياللهعنه هو قضية القرب من مكة والمدينة ، فهذه مزية لم تختض بركبة ، بل اشتركت بها بقاع لا تعدّ ولا تحصى ، وكم من مكان أقرب إلى مكة أو إلى المدينة من ركبة هذه ، التي هي على مسافة يوم ونصف يوم من مكة ، وما أرى عمر قصد إلا طيب الهواء ، والبعد عن الوباء ، كما قال ابن وضاح ، فالشام هي مضرب الأمثال في جودة الماء والهواء ، ومع هذا فإنّ عمر يرى بقعة مثل ركبة من بقاع الطائف أفضل منه للسكنى ، إنه لم يقسم لي الذهاب إلى ركبة ، وإنما سمعت من أهل الطائف الشيء الكثير عن طيب نجعتها ، وبهجة روضها ، لا سيما في أيّام الربيع.
وقول ابن وضاح لا يخلو من صحة ، فالشام مع كونه مضرب الأمثال في طيب الماء والهواء ، ومع كونها جنة الله في أرضه ، موصوفة بالوباء من قديم الزمان ، حتى إنّ أحد إخواننا المصريين أخذته فيما يظهر الغيرة مما رأى من محاسن دمشق ، فنبزها بسرعة الوباء إليها من كثرة المياه المتدفقة في كل أنحائها فقال ذلك البيت الشهير (١) :
قيل لي صف بردى كوثرها |
|
قلت : غال برداها برداها |
__________________
(١) قائله [لا] أشهر منه ، وهو ابن الفارض ، وهو من أبيات له في تفضيل مصر على الشام ، نسيها الأمير فظنّ أنّ البيت لبعض المعاصرين [قلت : الأمير لم ينكر نسبها لابن الفارض بدليل قوله (الشهير) وإنما قصده أنّ قائله تمثّل به ، والأبيات بتمامها هي :
جلّق جنّة من تاه وباهى |
|
ورباها منيتي لو لا وباها |
قيل لي : صف بردى كوثرها |
|
قلت : غال برداها برداها |
وطني مصر وفيها وطري |
|
ولعيني مشتهاها مشتهاها |
ولنفسي غيرها إن سكنت |
|
يا خليليّ سلاها ما سلاها]. |