وقد أبى الله إلا أن يجعل بإزاء كلّ سهل حزنا ، ومع كلّ سرور حزنا ، وأن لا يدع الكمال نصيب شيء من هذه الدنيا ، فكثرة المياه في القطر الشامي التي هي مصدر رخائه ، ومرجع نضارته وبهائه ، هي أيضا سبب وبائه ، وشدّة بلائه ، فقد تقرّر أنّ الأوبئة تتفشّى بالبلاد التي تشرب من الأنهار ، أكثر مما تتفشّى بالبلاد التي تشرب من الآبار ، وذلك لأنّ المكروب إنما ينمو في الماء ، وإذ كان الماء مما يشترك الخلق في وروده ، كانت العدوى به أكثر ، كما لا يخفى.
وأكثر حواضر الشام مبنية على الأنهار ، فدمشق على بردى ، وحمص وحماه على العاصي ، وحلب على قويق ، وبعلبك على رأس العين ، وزحلة على البردوني ، وطرابلس على أبي علي ، وصيدا على الأولي ، وهلم جرا.
وقبل أن جرّ إلى بيروت ماء نهر الكلب كانت أقلّ تعرضا للأمراض الوافدة.
فلهذا كانت بلاد الطائف منزّهة عن الوباء بسببين.
الأول : وفرة الأكسجين في هواء تلك الجبال العالية.
والثاني : قلة المياه الجارية فيها ، على الضد من جبال الشام ، والمياه هي التي تنتقل الجراثيم بواسطتها ، فمن أين تتفشى الأوبئة في ركبة ونواحيها ، ومن أين تتكون المستنقعات ، التي تنشأ عنها الحميات؟
فهذا ما أراده سيدنا عمر بن الخطاب بقوله : لبيت بركبة أحبّ إلى من عشرة أبيات بالشام.
وسبق أن روينا عن الأصمعي ـ ولم يكن الأصمعيّ بليدا ـ قوله : دخلنا الطائف ، فكأنني كنت أبشّر ، وكأنّ قلبي ينضح بالسرور ، وما أجد لذلك سببا إلا انفساح حدها ، وطيب نسمتها.
ولا أظن أحدا دخل الطائف إلا وشعر بهذا الإنشراح في صدره ، والانفساح في رئته ، ولو كانت الطائف مربوطة بسكة حديد بجدة لقصدها المصطافون من مصر والشام والهند وسواحل جزيرة العرب.