على أنّ مؤرخي الإفرنج يعترفون بأنّ في كتب مورخي الإسلام روايات عن مدنية سبأ القديمة ، والأدوار التي تلتها تنطبق أشدّ الانطباق على الكتابات المنقوشة في الحجر ، وعلى المنابع (١) اليونانية والرومانية ، وكلها تفيد أن مدنية سبأ كانت راقية جدا ، وأرقى من المدنيات العربية الأخرى ، فالمباني القديمة الداثرة من آثار سبأ ، والنقوش والتماثيل ، وبقايا الأعمدة والهياكل ، والقصور والأسوار والأبراج ، وسدود المياه ، مما شاهده سيّاح الإفرنج بعينهم يطابق أشدّ المطابقة الأوصاف التي وصف بها اليونان والرومان تلك الآثار المدهشة ، ولا يجدون فيها مبالغة ، كما أنّه عندما ينظر السائح إلى تلك الآثار الباهرة لا يعود متعجبا مما جاء عنها في كتب الإسلام ، مما كان يظنه من أساطير الأولين. وحسبك ما ذكره الهمداني عن قصر غمدان وغيره من قصور سبأ مثل قصر سالحين ، وبينون ، وما ذكره عن عظمة سد مأرب ، وما كتبه مؤرخو اليونان والرومان عن فخامة تلك القصور ، وهاتيك الأسداد والقلاع ، فهو مطابق للمحسوس المشهود بالعيان.
فقد كان العرب في جنوبيّ الجزيرة في حاجة إلى خزن مياه الأمطار لأجل زراعتهم ، فبلغوا من الاعتناء ببناء السدود والحياض أقصى درجة يتصوّرها العقل ، وترقت الزراعة في اليمن لذلك العهد القديم إلى حدّ لا يخط ببال أحد.
وروى الهمداني أنه كان يقال لليمن : اليمن الخضراء. لكثرة أشجارها وفواكهها ومحصولاتها ، ولم تكن الزراعة وحدها هي التي بلغت الأمد الأقصى من الرقيّ ؛ بل ضارعتها التجارة من جهة ، والصناعة من جهة أخرى.
__________________
(١) [المصادر].