منها ، وكلّما قرب المجتمع من حال البداوة اشتدت العناية بالأنساب ، واستفحلت العصبيات ، التي هي من طبيعة الاعتناء بالنسب.
وقولنا : إنّ البوادي أشد من الحواضر عناية بهذا الأمر لا يعني أنّ الحواضر العربية لا تقيم للأنساب وزنا ، فالعرب غالب عليهم الاحتفال بالنسب حاضرهم وباديهم ، وأبناء البيوتات منهم ، ولو كانوا في أشدّ الحواضر استبحار عمارة يحفظون أنسابهم ، ويقيّدونها في السجلات ، وكثيرا ما يصدقونها لدى القضاة بشهادات العلماء الأعلام والعدول ، ويسجّلونها في المحاكم الشرعية.
وإذا كانوا من آل البيت النبوي ـ وهو أشرف الأنساب بالنظر إلى اتصالهم بفاطمة الزهراء ، التي هي بضعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو أشرف الخلق ـ حرّروا أنسابهم لدى نقباء الأشراف ، وكتبوا به الكتب المؤلفة ، وهذا أمر بديهي لا نزاع فيه ، لأنّ هذا الشرف هو مما يتنافس به ، ومما يستجلب لصاحبه مزايا معنوية ، وأحيانا منافع مادية ، فلا يريد منتسب إلى هذا البيت الشريف أن يفقد الدليل على نسبته هذه.
ولئن كان البيت النبوي هو أشرف الأنساب بالسبب الذي تقدّم الكلام عليه ، فليس سائر بيوتات العرب من ذراري الملوك والأمراء ، والأئمة والعلماء والأولياء أقل حرصا على حفظ أنسابهم من آل البيت الفاطمي.
وجميع قريش مثلا سواء كانوا من الطالبيين أو من غيرهم يفتخرون بنسبهم القرشيّ ، وكذلك ذراريّ الأنصار من الأوس والخزرج يفتخرون بأنسابهم القحطانية ، وكذلك سلائل الملوك من لخم وغسان ، وأمثالهم من العرب القحطانية ليسوا أقل حرصا على حفظ أنسابهم من تلك البطون العدنانية الشريفة.
والعرب بالإجمال سائرون في النسب على مقتضى قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، فكل قبيلة راضية بنسبها ،