الأقطار ، وكان ألذّ وأبهج ، وأعلق بالقلب ، وأشرح للصدر ، وكأنّ الماء في الحجاز يساوي خمسين مرة الماء في الشام ، ومئة مرة في سويسرة مثلا ، وكأنّ الغصن الأخضر في الحجاز أحلى منه مئة مرة في أوربة ، وكم من عين لو كنت في سورية ومررت على مثلها لم أقف دقيقة ، ولا نظرت إليها إلا كما أنظر إلى التراب ، فأما في الحجاز فقد كنت أقيل إلى جانبها ، وأحدّق في قطرات مائها ، ولا أبرح أتحدّث إلى الإخوان عن قسطلة جريها ، وصفاء لونها ، وكم من مرّة جلسنا في الحجاز إلى ثمال (١) وأوشال (٢) ، لا تمرّ في غير الحجاز على بال ، فكنّا نستعذبها ، ونتلذّذ بالمقيل عندها ، كما لو كنّا على نبع الباروك ، أو نبع الصفا في جبل لبنان.
لا جرم أنّ الأمور في الغالب نسبية ، تغلو وترخص ، وتحسن وتسمج ، بحسب الزمان والمكان ، وقد يلذّ لك في الصيف ما تجده ثقيلا في الشتاء ، وترتاح في الأقاليم الحارة إلى ما تفرّ منه في الأقاليم الباردة ، والثلج فاكهة الجروم (٣) ، على حين أنّ النار فاكهة الصرود (٤) ، وهلم جرا. ولذلك أراني أتلذّذ بالماء والظل والخضرة في الحجاز وفي الشرق كلّه أكثر مما أتلّذذ بها في أوربة ، لا سيّما في القسم الشماليّ منها.
ففي أوربة مياه تتدفّق ، وأنهار تهدر ، وشلّالات تتحدّر ، ولكن كلّ ذلك في جوّ لا ترتفع حرارته عن (١٥) أو (٢٠) بميزان سنتيغراد إلا أياما قلائل من السنة ، وكلّ ذلك في جو مطير متلبّد بالسحب أكثر السنة ، فأيّ لذة لماء الجداول والأنهار الجارية على الأرض ، حينما تكون المياه نازلة من السماء؟ وأية لذة يجدها الإنسان في الظّلّ الظّليل
__________________
(١) [جمع الثمالة : وهي البقية في أسفل الإناء من شراب ونحوه].
(٢) [جمع وشل : وهو الماء القليل تحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره].
(٣) [جمع جرم ، والجرم الحارّ ، معرّب].
(٤) [البرد].