الأميال والمصانعات ، فنبّههم الله تعالى على أنّ ذلك يجرّ إلى الطعن في العصمة. وليس هذا الأنصاري بمنافق ولا شاكّ في الرسول ، فإنّهم وصفوه بالأنصاري وهو وصف لخيرة من المؤمنين ، وما وصفوه بالمنافق ، ولكنّه جهل وغفل فعفا عنه رسول الله ولم يستتبه. وهذه القضية ترجع إلى النظر في التكفير بلازم القول والفعل ، وفيها تفصيل حسن لابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب «الجنائز» وكتاب «المرتدّين». خلاصته : أنّه لا بدّ من تنبيه من يصدر منه مثل هذا على ما يلزم قوله من لازم الكفر فإن التزمه ولم يرجع عدّ كافرا ، لأنّ المرء قد يغفل عن دلالة الالتزام ، ويؤخذ هذا على هذا الوجه في سبب النزول من أسلوب الآية لقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) ـ إلى قوله ـ (تَسْلِيماً) فنبّه الأنصاري بأنّه قد التبس بحالة تنافي الإيمان في خفاء إن استمرّ عليها بعد التنبيه على عاقبتها لم يكن مؤمنا.
والأنصاري ، قيل : هو غير معروف ، وحبّذا إخفاؤه ، وقيل : هو ثعلبة بن حاطب ، ووقع في «الكشاف» أنه حاطب بن أبي بلتعة ، وهو سهو من مؤلفه ، وقيل : ثابت بن قيس بن شمّاس ، وعلى هذه الرواية في سبب النزول يكون معنى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) أنّه لا يستمرّ إيمانهم. والظاهر عندي أنّ الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المنافق فظنّها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري.
[٦٦ ـ ٦٨] (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))
لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه. فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلىاللهعليهوسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا نبيئنا بقتل أنفسنا ففعلنا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفا ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقا لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) بل قيل : لفعله فريق منهم. وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليتركوا العناد. وهي على هذا